ومـن مصاديق الـحميّة الجاهليّة ما حاوله البعض أن يحرّف في معنى الجاهليّة من معنى عدم العلم وفـقـدان الـمـعرفة لديهم إلى أنها من الجهل بمعنى الحميّة والغضب ، كما قـد يقال : جهل زيد على عمرو بمعنى غضب عليه ،وأنها ليست من الجهل بمعنى عدم العلم والمعرفة.
وهـذا الـتـوجيه ليس ـ كما قلنا ـ إلا مصداقاً من مصاديق الحميّة الجاهليّة ، فإنّ الظاهر من إطلاق الـجـهـل لـيس إلا بمعنى ما يقابل العلم والمعرفة ، ولا تحمل على معنى الحميّة والغضب إلا مجازاً بـقـريـنـة مـا ، كـمـا فـيـمـا يـستشهدون به من قولهم جهل عليه ، فإنّ تعدية الجهل إلى المفعول بلفظة ((على)) أجلى قرينة لفظية لذلك، وإلا فلا تحمل الكلمة إلا على ما يقابل العلم فقط.
ولـيـت شـعري ما يقول أصحاب هذا التوجيه غير الوجيه في معنى ما جاء في الآيات الكريمة الأربع ((ظنّ الجاهليّة)) {آل عمران:154} و((حكم الجاهليّة)) {المائدة:50} و((الحميّة الجاهليّة)) {الفتح:26} و((تبرّج الجاهليّة)) {الاحزاب:33} فهل يصحّ أن تفسّر الجاهليّة في هذه الآيات بمعنى الغضب ؟.
وقد رأينا أمير المؤمنين (ع ) وصف الجاهليّة بالجهلاء تأكيداً للمعنى المعروف مـن الجاهليّة ، ثم قال : ((وبلاء من الجهل)) {الخطبة : 95} و((إطباق جهل)) {الخطبة:190} ممّا يؤكد ذلك أيضاً ويدفع أيّ ترديدٍ فيه .
((لـقـد أوضـح لـنـا الإمـام أمير المؤمنين عليه السلام في كلماته المتقدّمة حالة العرب ومستواهم العلمي والثقافي ، و أنّهم كانوا يعيشون في ظلمات الجهل والحيرة والضّياع ..
وهـذا يـكـذب كـل ما يدّعيه الآخرون ـ كالآلوسي وغيره ـ من أنّ العرب كانوا قد تميّزوا ببعض العلوم : كعلم الطبّ والأنواء والقيافة والعيافة… )) { الصحيح من سيرة النبي الاعظم (ص ) 1 : 48}.
ويـقول ابن خلدون بهذا الصدد ((إنّ الملّة ـ العربيّة ـ في أوّلها لم يكن فيها علم ولا صناعة ، وذلك لمقتضى أحوال السذاجة والبداوة.. فالقوم يومئذٍ عرب لم يعرفوا أمر التعليم والتأليف والتدوين ، ولا دفعوا إليه ، ولا دعتهم إليه حاجة .فالاُمّيّة يومئذٍ صفة عامّة)) { مقدمة ابن خلدون :543}.
ويـقـول عــن عـلم الطب عند العرب : (( .. طب يبنونه ـ في غالب الأمر- على تجربة قاصرة على بعض الأشخاص متوارثاً عن مشايخ الحيّ وعجائزه ،وربّما يصحّ منه البعض إلا أنّه ليس على قانون طـبـيعي ولا على موافقة المزاج. وكان عند العرب من هذا الطب كثير ، وكان فيهم أطبّاء معروفون كالحارث بن كلدة وغيره)){مقدمة ابن خلدون :493}.
ويكفي أن نذكر هنا ما رواه البلاذري في اُميّتهم : إنّ الإسلام دخل وفي قريش سبعة عشر رجلاً ، وفي الأوس والخزرج في المدينة إثنا عشر رجلاً يعرفون القراءة والكتابة { فتوح البلدان ق3 : 580}.
ويـقول ابن خلدون عن نوعية الخطّ عندهم ((وكانت كتابة العرب بدوية وكان الخط العربي لأوّل الإسـلام غـير بالغ إلى الغاية من الإحكام والإتقان والإجادة ولا إلى التوسط ، ذلك لمكان العرب من الـبـداوة والـتـوحّـش وبـعـدهـم عن الصنائع. وانظر ما وقع ـ لأجل ذلك ـ في رسمهم المصحف حـيـث رسـمه الصحابة بخطوطهم وكانت غير مستحكمة في الإجادة فخالف الكثير من رسومهم ما اقـتـضته رسوم صناعة الخط عند أهلها ، ثمّ اقتفى التابعون من السلف رسمهم فيها تبرّكاً بما رسمه أصحاب الرسول)) { مقدمة ابن خلدون :419}.
بل ربّما كـانوا يعتبرون القراءة والكتابة عيباً ، فقد قال عيسى بن عمر : قال لي ذو الرّمة : ارفع هذا الحرف. فقلت له : أتكتب ؟ فقال بيده على فيه إي اكتم عليّ ، فإنّه عندنا عيب { الشعر والشعرا لابن قتيبة : 334}.
وقـال ابـن خـلـدون بهذا الصدد : ((مع ما يلحقهم من الأنفة عن انتحال العلم حينئذ ، لأنه من جملة الصنائع ، والرؤساء ـ أبداً ـ يستنكفون عن الصنائع والمهن وما يجرّ إليها)) { مقدمة ابن خلدون : 544 } .
فـالـذي رواه الرواة والمؤرخون يفيد نفي وجود أي لون من ألوان التعليم ، أو وجوده ولكن بنسبة صـغـيـرة جـدّاً حـيث لا يتجاوز عدد المتعلمين عدد أصابع اليدين والرجلين في كلّ بلدان الحجاز وحواضره .
ذهـب بعض المتأخرين من المؤرخين العرب ـ منهم محمد عزة دروزة في كتابه : القرآن المجيد ـ إلـى أنّ هـناك في المدن الحجازية فئة من المتعلمين بنسبة لا يمكن تجاهلها وكلّ ما سجّله هؤلاء في كتبهم لتأييد رأيهم هو : ـ أنّ البيئة الحجازية ـ ولا سيّما مكة والمدينة ـ كانت بيئة تجارية ـ ، كما أشـار إلـى ذلك القرآن الكريم في سورة قريش ، فكانت ـ بحكم عملها وطبيعتها ـ على اتّصال وثيق ومـسـتـمر مع البلاد المجاورة من الشام واليمن والعراق والتي كانت على جانب لا بأس به من العلم والثقافة.
وكـانت البيئة الحجازية تضم فئات كتابيّة : يهودية ومسيحية اصيلة ونازحة من البلاد المجاورة ، والتي كانت تتداول ما بينها الكتب الدينية وغيرها قراءة وكتابة .
هـذا مـن جـهة ، ومن جهة اُخرى فقد ورد في القرآن العزيز أطول آية في سورة البقرة تطلب من الناس تسجيل كافة المعاملات والتصرفات وكتابتها نقـداً أو ديناً صغيرة أو كبيرة { البقرة : 282} فكيف تـطـلـب هـذه الآيـات مـن الـنـاس تـحـقـيق كلّ ذلك دون وجود قسم من المتعلمين في صفوفهم يكتبون ويدوّنون عن أنفسهم أو الآخرين .
هـذا بـالإضافة إلى أنّ كتبة الوحي بين يدي الرسول صلى الله عليه و على آله بلغ عددهم أكثر مـن أربعين رجلاً ، وأنّ كـثيراً منهم كانوا مكيّين ، وهم الذين كتبوا القسم المكّي من القرآن قبل هجرته الرسول صلى الله عليه و على آله إلى المدينة ، فـهـذا دليل على وجود المتعلمين في مكة وإن كانوا قليلين ، سواء مّمن كتب الوحي من هؤلاء ومن لم يسلم بعد.
كـما أنّ الأسرى الفقراء من قريش الذين وقعوا في قبضة المسلمين في معركة بدر الكبرى في العام الثاني للهجرة ، والذين لم يستطيعوا أن يقدّموا فدية نقديّة لإطلاق سراحهم ، كلف كلّ واحد منهم ـ مـمّـن يجيد القراءة والكتابة ـ تعليم عشرة من أطفال المسلمين في المدينة القراءة و الكتابة لقاء إطلاق سـراحـهـم ، ويـحدّثنا البلاذري : انّ كثيرين منهم قاموا بما كلّفوا به من تعليم الأطفال في المدينة وأصـبـحـوا بعدها أحراراً عادوا إلى مكة ، كما أسلم بعضهم بعدما لمسوا عدالة الإسلام وسماحته فـكـيـف يـعـقـل هنا أن يجيد قسم من الفقراء ومعدمي القرشيّين القراءة والكتابة ولا يتقنها أغنياؤهم وتجّارهم وأرباب السلطان منهم! { لمحات من تاريخ القرآن للسيد محمد علي الاشيقر , ط النجف : 36 و 37} .
وخـلاصـة الـقول في جواب هؤلاء هو أن نقول : إنّ الجهل كان هو الحاكم المطلق ولا نلاحظ نحن فيهم أي شيء من العلوم قبل الإسلام بل لا نرى إلا جهلاً وحيرة وضياعاً. أمّا ما اسـتشهد به هؤلاء فلا يعدو أن يكون مّما قام به الإسلام لمحو الامّيّة.
أمّا أولوية أن يكون ذوو الغنى والسلطان منهم يقرأون ويكتبون فقد عرفت فساده ممّا سبق عن ابن خـلدون. وأمّا عدد كتّاب الوحي فقد فنّد أكثر العدد العلامة السيد أبو الفضل مير محمدي في كتابه القيّم ((بحوث في تاريخ القرآن وعلومه)).
ولا يـفـوتـنا هنا أن ننوّه إلى : أنّ اُميّتهم هذه كانت السبب في قوة حافظتهم التي امتازوا بها ، فأصبح الكثير منهم حفظة القرآن الكريم وأحاديث الرسول العظيم .
لكن مستواهم الثقافي هذا كان السبب الطبيعي في أن ينظروا إلى أهل الكتاب عموماً واليهود خصوصاً نظرة التلميذ إلى معلّمه فتكون لهم الهيمنة الفكـرية عليهم ، ممّا بقيت آثاره في أخبار رواتهم فيقول الطبري : ((عن بعض أهل العلم من أهل الكتاب)).
غيرة وحميّة ، أم حميّة جاهليّة :
كـمـا حـاولـوا أن يوجّهوا الجاهلية بتفسيرها بمعنى الغضب لا عدم العلم والمعرفة ، كذلك حاولوا تحريف الحميّة الجاهليّة المذكورة في القرآن الكريم من كونها صفة ذميمة إلى جعلها خصيصة ذات ميزة للعرب قبل الإسلام ، وذلك بحذف صفة الجاهليّة وإضافة لفظة ((الغيرة)) إلى ((الحمية)) .
والـحقيقة هي أنّ الحميّة صفة ذميمة ، إذ هي تعني أن يكون النصر للقبيلة وذوي القرابة فقط ، وإن الـعون لابدّ وأن يمحّض لهم ظالمين كانوا أو مظلومين فلابدّ من الوقوف إلى جانب ابن القبيلة سواء كان الحقّ له أو عليه ، حتى قال شاعرهم يمتدحهم بذلك:
ومـن الـطـبـيـعـي أن يكون شعور أفراد كلّ قبيلة بالنسبة لأبناء قبيلتهم قويّاً جدّاً ، وذلك بدافع من شعورهم بالحاجة إلى قبائلهم للدفاع عن أنفسهم .
وهـذا هـو الـسـرّ في شجاعتهم أيضاً ، وذلك أنّهم بحكم بيئتهم وحياتهم في الصحراء بلا حواجز وموانع طبيعيّة أو غيرها ، كانوا يشعرون بحاجتهم إلى حماية أنفسهم والدفاع عنها ، ولا يردّ عنه إلا يـده وسـيـفـه ثـمّ أهـلـه وعـشـيـرتـه ، وهو يرى نفسه في كلّ حين عرضة للغزو والنهب والسّلب والغارات والثارات .
إنّ حـيـاة الـبـاديـة والغزو المفاجيء وعمليات الاغتيال ثأراً التي كانت تهدّدهم دائماً ، كل ذلك كان يـسـتدعي سرعة الإقدام ومباشرة العمل فوراً ،فإذا اضيف إلى ذلك عدم شعورهم بالمسؤوليّة عمّا يـفـعـلـون ، فـإنّ الإقـدام بـلا تـروّ ولا تريّث لابدّ وأن يصبح هو الصّفة المميّزة لهم والطّاغية على تصرفاتهم.. ولذا فقد قلّ أن تجد فيهم حليماً.
وأخيراً فقد نعى القرآن الكريم على الجاهليّة هذه الحميّة فعبّر عنها بالحمية الجاهليّة ، وهذا يعني أنّها كانت من دون تثبّت في الفكر والرأي بل للجهل ، فكيف تكون ميزة ؟!
أجـل إنّ الإسـلام حاول إن يضع هذه الحميّة في خطّها الصحيح وأن يجعلها تنطلق من قواعد إنسانيّة وعـواطـف حقيقيّة وفضائل أخلاقيّة ، وبالأخص من إحساس دينيّ صحيح ، وأن يستفيد منها في بنا الامّـة عـلـى اسس صحيحة وسليمة. فقد حاول أن يوجّه العصبيّة القبليّة وجهة بنّاءة ويقضي على كل عـناصر الشر والانحراف فيها ، فدعى إلى بر الوالدين وإلى صلة الرحم ، وجعل ذلك من الواجبات وذلك لربط الامّة المسلمة بعضها ببعض. وفي الوقت نفسه أدان كلّ تعصب لغير الحقّ وندّد به وعاقب عليه ،واعتبر ذلك من دعوات الجاهليّة المنتنة كما جاء في بعض نصوص الأحـاديث وكذلك حاول أن يوجه غيرتهم وحميّتهم وشدّتهم إلى حيث قال تعالى : (أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ ){الفتح:29}.
المصدر: "موسوعة تاريخ الاسلام" تأليف الشيخ محمد هادي اليوسفي الغروي