يجدر بنا ونحن نحاول دراسة التأريخ الإسلامي أن نتعرّف على تاريخ بناء الكعبـة في مكة المكرمة ، وذلك يجرّنا إلى البدء بتاريخ بانيها إبراهيم عليه السلام، فلنبدأ به:
ومـن اجـمـع ما يتضمن قصة الخليل عليه السلام ما جاء في ((روضة الكافي)) بسنده عن عليّ بن إبراهيم القمّي ، عن زيد الكرخي قال:
سـمـعـت أبا عبد الله الصادق عليه السلام يقول : إنّ إبراهيم عليه السلام كان مولده بكوثاريا وكان أبوه من أهلها ، وكانت اُمّ إبراهيم واُمّ لوط عليهما السلام، سارة وورقة اختين، وهما ابنتان للاحج، وكان لاحج نبيّا منذراً، ولم يكن رسولاً.
و كان إبراهيم عليه السلام في شبيبته على الفطرة التي فطر الله عزّ و جلّ الخلق عليها حتى هداه الله تبارك و تعالى إلى دينه و اجتباه و انّه تزوج سارة ابنة لاحج، وهي ابنة خالته، و كانت سارة صاحبة ماشية كثيرة و أرض واسعة وحال حسنة، وكانت قد ملّكت إبراهيم عليه السلام جميع ما كانت تـملكه، فقـام فيه و أصلحه وكثرت الماشية والزرع حتّى لم يكن بأرض كوثاريا رجل أحسن حالاً منه .
وإنّ إبراهيم لمّا كسّر اصنام نمرود و أمر به نمرود فاُوثق، وعمل له حايراً و جمع له فيه الحطب و ألـهـب فـيـه الـنـار، ثمّ قذف إبراهيم عليه السلام في النار لتحرقه، ثم اعتزلوها حتّى خمدت النار. ثمّ اشـرفـوا عـلـى الحاير فإذا إبراهيم عليه السلام سليماً مطلقاً من وثاقه. فاُخبر نمرود خبره، فأمرهم أن ينفوا إبراهيم عليه السلام من بلاده، وأن يمنعوه من الخروج بماشيته وماله فحاجّهم إبراهيم عليه السلام عند ذلك فـقـال : إن أخـذتـم مـاشـيتي ومالي فإنّ حقّي عليكم أن تردّوا عليّ ما ذهب من عمري في بلادكم! واختصموا إلى قاضي نمرود فقضى على أصحاب نمرود أن يردّوا على إبراهيم عليه السلام ماله! و اُخبر بذلك نمرود، فأمرهم أن يخلوا سبيله وسبيل ماشيته وماله ويخرجوه وقال : إنّه إن بقي في بلادكم أفسد دينكم (!) وأضرّ بآلهتكم. فأخرجوا إبراهيم و لوطاً عليهما السلام معه من بلادهم إلى الشام.
فخرج إبراهيم ـ ومعه لوط لا يفارقه ـ وسارة، وقال لهم ((إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ)) { الصافات:99} يعني إلى بـيـت الـمـقدس. فتحمّل إبراهيم بماشيته وماله، وعمل تابوتاً وجعل فيه سارة وشدّ عليها الاغلاق غـيـرةً مـنـه عليها. ومضى حتى خرج من سلطان نمرود، وصار إلى سلطان رجل من القبط يقال له: عـزارة، فمرّ بعاشر له فاعترضه العاشر ليعشّر ما معه، فلما انتهى إلى العاشر و معه التابوت قال الـعاشر لإبراهيم عليه السلام: إفتح هذا التابوت لنعشّر ما فيه، فقال له إبراهيم عليه السلام: قل ما شئت فيه من ذهـب أو فـضـة حتّى نعطي عشره ولا نفتحه. فأبى العـاشر إلا فتحه، وغضب إبراهيم عليه السلام على فـتـحه. فلما بدت له سارة ـ وكانت موصوفة بالحسن والجمال ـ قال له العاشر :ما هذه المراة منك؟ قــال إبـراهـيـم عليه السلام: هـي حرمتي وابنة خالتي. فقال له العاشر: فما دعاك إلى أن خبّيتها في هذا الـتابوت ؟ فقال إبراهيم عليه السلام: الغيرة عليها أن يراها أحد! فقال له العاشر: لست أدعك تبرح حتّى اُعلم الملك حالها وحالك.
فـبعث رسولاً إلى الملك فأعلمه، فبعث الملك رسولاً من قبله ليأتوه بالتابوت، فأتوا ليذهبوا به فقال لـهـم إبـراهيم عليه السلام: إنّي لست اُفارق التابوت حتّى يفـارق روحي جسدي! فاخبروا الملك بذلك، فأرسل الملك: أن احملوه والتابوت معه. فحملوا إبراهيم عليه السلام والتابوت وجميع ما كان معه حتّى اُدخل عـلـى الملك، فقال له الملك: افتح التابوت! فقال له إبراهيم عليه السلام: أيّها الملك إنّ فيه حرمتي و ابنة خالتي و أنا مفتد فتحه بجميع ما معي.
فغصب الملكُ إبراهيمَ عليه السلام على فتحه، فلما رأى سارة لم يملك حلمه سفهه أن مدّ يده إليها، فأعرض إبـراهيم عليه السلام وجهه عنها وعنه ـ غيرة منه ـ وقال : اللّهم احبس يده عن حرمتي وابنة خالتي! فلم تصل يده إليها ولم ترجع إليه!
فقال له الملك: إنّ إلهك هو الذي فعل بي هذا ؟ فقال له: نعم إنّ إلهي غيور يكره الحرام، وهو الذي حال بينك وبين ما أردته من الحرام.
فـقـال له الملك: فادع إلهك يردّ عليّ يدي، فإن أجابك فلن أعرض لها. فقال إبراهيم عليه السلام: إلهي ردّ إليه يده ليكفّ عن حرمتي، قال: فردّ الله عز وجل إليه يده.
فـأقبل الملك نحوه ببصره ثمّ عاد بيده نحوها فأعرض إبراهيم عنه بوجهه غيرة منه ، وقال: اللّهم احبس يده عنها. قال: فيبست يده ولم تصل إليها.
فـقـال الملك لإبراهيم عليه السلام: إنّ إلهك لغيور، وإنّك لغيور، فادع إلهك يردّ إليّ يدي، فإنّه إن فعل لم أعـد! فقال إبراهيم عليه السلام: أسأله ذلك على أنّك إن عدت لم تسألني أن أسأله! فقال الملك: نعم ، فقال إبراهيم: نعم.
فقال إبراهيم عليه السلام : اللهم إن كان صادقاً فردّ يده عليه. فرجعت إليه يده. فلمّا رأى ذلك الملك من الغيرة مـا رأى، و رأى الآيـة في يده، عظّم إبراهيم عليه السلام وهابه وأكرمه واتّقاه، وقال له: قد أمنت من أن أعـرض لها أو لشيء ممّا معك فانطلق حيث شئت، ولكن لي إليك حاجة! فقال إبراهيم عليه السلام: ما هي؟ فـقال له : اُحبّ أن تأذن لي أن اُخدمها قبطيّة عندي جميلة عاقلة تكون لها خادماً، فأذِنَ إبراهيم عليه السلام فدعا بها فوهبها لسارة، وهى هاجر اُمّ إسماعيل عليه السلام.
فـسـار إبـراهيم عليه السلام بجميع ما معه، وخرج الملك معه يمشي خلف إبراهيم عليه السلام إعظاماً لإبراهيم وهَيبةً له، فأوحى الله تبارك وتعالى إلى إبراهيم عليه السلام: أن قف ولا تمشِ قدّام الجبّار المتسـلّط وهو يمشي خلفك، ولكن اجعله أمامك وامشِ خلفه وعظّمه وهبه فإنّه مسلّط، ولا بدّ من إمرةٍ في الأرض بـرّةٍ أو فـاجرة! فوقف إبراهيم عليه السلام و قال للملك: امضِ، فإنّ إلهي أوحى إليّ الساعة: أن اعظّمك و أهابك ، وأن اقدّمك أمامي وأمشي خلفك إجلالاً لك! فقال له الملك: أوحى إليك بهذا؟ فقال إبراهيم عليه السلام : نعم. فقال له الملك : أشهد أنّ إلهك لرفيق حليم كريم، وانك ترغّبني في دينك! وودّعه الملك.
فسار ابراهيم عليه السلام حتى نزل بأعلى الشامات وقد خلّف لوطاً عليه السلام في أدنى الشامات.
ثمّ إنّ إبراهيم عليه السلام لمّا أبطأ عليه الولد قال لسارة : لو شئت لبعتني هاجر لعلّ الله أن يرزقنا منها ولداً فيكون لنا خلفا ؟! فابتاع إبراهيم عليه السلام هاجر من سارة فتزوّج بها، فولدت إسماعيل عليه السلام{روضة الكافي ص 303-306}.
وروى علي بن إبراهيم القمّي في تفسيره عن أبيه عن هشام عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام قال:
إنّ إبراهيم عليه السلام كان نازلاً في بادية الشام، فلمّا ولد له من هاجرإسماعيل اغتمّت سارة من ذلك غمّاً شـديـداً لأنّه لم يكن له منها ولد، فكانت تؤذي إبراهيم في هاجر وتغمّه ، فشكى إبراهيم ذلك إلى الله عـز وجـل ، فأوحى الله إليه ، إنّما مَثل المرأة مِثل الضلع الأعوج، إن تركتها استمتعت بها وإن أقمتها كسرتها. ثم أمره أن يُخرج إسماعيل واُمّه، فقال: يا ربّ إلى أيّ مكان؟ قال: الى حَرَمي وأمني و أوّل بـقعةٍ خلقتها من الأرض وهي مكّة فأنزل الله عليه جبرئيل بالبراق فحمل هـاجر واسماعيل وكان ابراهيم لايمرّ بموضع حَسَن فيه شجر ونخل وزرع إلا قال: يا جبرئيل إلى ها هنا ؟ إلى ها هنا ؟ فيقول: لا ، امضِ، امضِ، حتى أتى مكة، فوضعه في موضع البيت .
وقد كان إبراهيم عليه السلام عاهد سارة: أن لا ينزل حتّى يرجع إليها ، فلمّا نزلوا في ذلك المكان كان فيه شجرة ، فألقت هاجر على ذلك الشجر كساء كان معها فاستظلّوا تحته، فلمّا سترهم ووضعهم وأراد الانـصـراف منهم الى سارة قالت له هاجر: يا إبراهيم لِمَ تَدَعُنا في موضع ليس فيه أنيس ولا ماء ولا زرع ؟!.