قتل عُثمان ، ولم يكن ثمة فرصة لتعيين من يقوم بعده بالخلافة ، فلا سقيفة ولا شورى! فكان من حقِّ الجماهير ، ولأوَّل مرَّة في تأريخها ، أن تطلق صوتها وترجع إلى رشدها.
فنهضت الجماهير عطشى تتسابق سباق الإبل إلى الماء ، جاءوا دار الإمام عليٍّ عليه السلام حيث اعتزل قبل هلاك عُثمان ، ولم يخرج من بيته ، يطالبون أن يخرج إليهم ليبايعوه..
حتى وصف أمير المؤمنين عليه السلام هذا السيل العارم وإصرارهم على البيعة بقوله : « فما راعني من الناس الا وهم رسلٌ إلي كعُرف الضبع ، يسألونني أن أُبايعهم ، وانثالوا عليَّ حتى لقد وُطئ الحسنان ، وشُقَّ عطفاي ».
ومضى يصف في خطبته هذه موقفه من الخلافة : « أما والذي فلق الحبَّة وبرأ النسمة ، لولا حضور الحاضر ولزوم الحجَّة بوجود الناصر ، وما أخذ الله على أولياء الأمر الا يقرُّوا على كظَّة ظالم أو سغب مظلومٍ ، لألقيت حبلها على غاربها ، ولسقيت آخرها بكأس أوَّلها ، ولألفوا دنياهم أزهد عندي من عفطة عنزٍ » (1) .
وتمَّت بيعته في الخلافة في يوم الجمعة الخامس والعشرين من ذي
الحجَّة عام 35هـ ، وقال عليه السلام يصف ذلك الأمر : « وبسطتهم يدي فكففتها ، ومددتموها فقبضتها ، ثُمَّ تداككتم عليَّ تداكَّ الإبل الهيم على حياضها يوم وردها ، حتى انقطعت النعل وسقط الرداء ووُطئ الضعيف.. » (2) .
وعن أبي ثور ـ كما جاء في ( الإمامة والسياسة ) ـ أنَّه قال : « لمَّا كانت البيعة بعد مصرع عثمان خرجت في اثر عليٍّ عليه السلام والناس حوله يبايعونه ، فدخل حائطاً من حيطان بني مازن ، فألجأوه إلى نخلة وحالوا بيني وبينه ، فنظرت إليهم وقد أخذت أيدي الناس ذراع الإمام ، تختلف أيديهم على يده ، ثُمَّ أقبلوا به إلى المسجد الشريف ، فكان أوَّل من صعد المنبر في المسجد طلحة وبايعه بيده ، وكانت أصابعه شلاء ، فتطيَّر منها عليٌّ عليه السلام وقال : « ما أخلقها أن تنكث » ، ثُمَّ بايعه الزبير وأصحاب النبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم وجميع من في المدينة من المسلمين » (3) .
بهذه اللهفة تمَّت أوَّل بيعة على صعيد واسع ، وصعد الخليفة الأول الحق بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المنبر الشريف بقبول الناس ورضاهم ، لكنَّ الإمام عليَّاً عليه السلام لم يكن من أصحاب السلطة.. فلم يقبل بالخلافة الا بعد أن رأى أنْ لا مفرَّ من ذلك ، وأنَّ مصلحة الإسلام والمسلمين تقتضي أن يمدَّ يده لتختلف عليه أيدي الناس المبايعة..
في هذا الجو المشحون بالفتن والحوادث بعد مقتل الخليفة وما خلَّف قتله من آثار ـ سنمرُّ عليها لاحقاً ـ في هذه الأجواء تمَّت البيعة للإمام عليه السلام ،
فقال ابن عبدالبر : « بويع لعليٍّ رضي الله عنه بالخلافة يوم قُتل عُثمان ، فاجتمع على بيعته المهاجرون والأنصار ، وتخلَّف عن بيعته نفرٌ منهم ، فلم يهجهم ولم يُكرههم.. » (4).
وكان ممَّن تخلَّف عن بيعته يوم ذاك : حسَّان بن ثابت ، وكعب بن مالك ، وزيد بن ثابت ، ومروان بن الحكم ، وسعد بن أبي وقَّاص ، وعبدالله بن عمر ، ومعاوية ومن معه في جماعة أهل الشام وآخرون (5) ، وعائشة بنت أبي بكر ، زوج الرسول صلى الله عليه وآله وسلم حيث وقفت من الإمام عليٍّ أشدَّ المواقف العدائية التي سنقف عليها لاحقاً.
على أي حال قد تمَّت البيعة المثالية ، التي لم يشهد التأريخ مثلها على جوانب صفحاته ، بيعة ليس لها نظيرٌ قطُّ ، اندفع كلُّ الناس يتسابقون أيُّهم يحوز الفضل قبل صاحبه.. ولم يفد معهم كلام ولا حجَّة ، فكانوا مصرِّين على بيعته حتى « وبلغ من سرور الناس بيعتهم إيَّاي أن ابتهج بها الصغير ، وهَدَجَ إليها الكبير ، وتحامل نحوها العليل ، وحسرت إليها الكعاب.. » (6) لا يرتضون له بديلاً حتى وإن أعلمهم بحقيقة الأمر وسياسته التي قد لا تُرضي الجمهور!
قد وضعهم أمام السياسة الواضحة ؛ إذ قال لهم : « دعوني والتمسوا غيري ، فإنَّا مستقبلون أمراً له وجوه وألوان ، لا تقوم له القلوب ، ولا تثبت عليه العقول.. وإنَّ الآفاق قد أغامت ، والمحجَّة قد تنكَّرت.. ».
وأضاف قائلاً : « واعلموا أنِّي إن أجبتكم ركبت بكم ما أعلم ، ولم أصغِ إلى قول القائل وعتب العاتب » (7) .
فاستجاب الناس طائعين إلى عرض أبواب السياسة التي سينتهجها ، ووجد المسلمون أنفسهم أمام واقعٍ جديد وأحداث جديدة لا عهد لهم بها من قبل.
ذكر الشيخ المفيد خبراً عن أبي الطفيل عامر بن واثلة ، قال : « جمع أمير المؤمنين عليه السلام الناس للبيعة ، فجاء عبدالرحمن بن ملجم المرادي ـ لعنه الله ـ فردَّه مرَّتين أو ثلاثاً ثُمَّ بايعه ، وقال عند بيعته له : « ما يحبس أشقاها! فوالذي نفسي بيده لتُخضبن هذه من هذا » ووضع يده على لحيته ورأسه عليه السلام ، فلمَّا أدبر ابن ملجم عنه منصرفاً قال عليه السلام متمثِّلاً :
« أشدد حيازيمك للمــوت * فــإنَّ المـوت لاقيــك
ولا تجــزع من المـوت * إذا حــلَّ بـواديـــك
كمـا أضحكـك الدهــر * كذاك الدهـر يبكيك » » (8)
____________
1) مقاطع من خطبته الشقشقية.
2) نهج البلاغة ، الخطبة : 229.
3) الإمامة والسياسة1 : 50 ، وانظر : الكامل في التاريخ3 : 81 ـ احداث سنة 35 ، البداية والنهاية 7 : 227.
4) تهذيب الكمال 13 : 304.
5) أنظر : الكامل في التاريخ 3 : 82 حيث ذكر عشرة أشخاصٍ تخلفوا عن بيعة الإمام.
6) نهج البلاغة ، الخطبة : 229.
7) نهج البلاغة ، الخطبة : 92.
8) إرشاد المفيد 1 : 11. ونقله العلأَمة المجلسي في البحار 42 : 192|6.
المصدر:سلسلة المعارف الإسلامية" الإمام علي (ع) سيرةٌ وتاريخٌ" نقلاً من موقع شبكة نور الإسلام