لمَّا قضى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نسكه وقفل إلى المدينة ، وانتهى إلى الموضع المعروف بغدير خُمٍّ نزل عليه جبريل عليه السلام وأمره أن يقيم عليَّاً عليه السلام وينصِّبه إماماً للناس؛ فقال : «ربِّ إنَّ أُمَّتي حديثو عهد بالجاهلية» فنزل عليه : إنَّها عزيمة لا رخصة منها ، فنزلت الآية : (( يَا أيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إلَيْكَ مِن رَبِّكَ وَإن لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاس))(1) .
فلمّا نزل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بغدير خُمٍّ ، ونزل المسلمون حوله ، أمر بدوحات فقُمِمْنَ ، وكان يوماً شديد الحرِّ ، حتَّى قيل : إنَّ أكثرهم ليلفُّ رداءه على قدميه من شدَّة الرمضاء ، وصعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على مكان مرتفع ، فردّ من سبقه ، ولحقه من تخلَّف ، وقام خطيباً ، ثُمَّ قال : «ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم ؟» قالوا : بلى يا رسول الله. فأخذ بيد عليٍّ فرفعها ، حتَّى بان بياض ابطيه ، وقال : «من كنت مولاه فهذا عليٌّ مولاه ، اللَّهمَّ والِ من والاه ، وعادِ من عاداه ، وانصر من نصره ، واخذل من خذله».
وقد ورد هذا الحديث في الكثير من كتب السيرة والتاريخ وكتب الحديث ايضاً وغيرها (2) بصيغ متعدِّدة ، تثبت أحقِّية الإمام عليٍّ عليه السلام بالإمامة بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وهو من أشهر النصوص على خلافته رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
وبعد أن نزل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صلَّى ركعتين ، ثُمَّ زالت الشمس فأذَّن مؤذنه لصلاة الظهر ، فصلَّى بالناس وجلس في خيمته ، وأمر عليَّاً عليه السلام أن يجلس في خيمة له بإزائه ، ثُمَّ أمر المسلمين أن يدخلوا عليه فوجاً فوجاً فيهنِّئوه بالإمامة ، ويسلِّموا عليه بإمرة المؤمنين ، ففعل الناس ذلك اليوم كلُّهم ، ثُمَّ أمر أزواجه وجميع نساء المؤمنين أن يدخلن معه ويسلِّمن عليه بإمرة المؤمنين ، ففعلن ذلك ، وكان ممَّن أطنب في تهنئته بذلك المقام عمر بن الخطَّاب ، وقال فيما قال : «بخٍ بخٍ لك يا عليُّ ، أصبحت مولاي ومولى كلِّ مؤمن ومؤمنة».
وأخرج أحمد وغيره ان أبا بكر وعمر قالا له : أمسيت يبن أبي طالب مولى كل مؤمن ومؤمنة (3) .
وأنشد حسَّان بن ثابت(4) :
يناديهـم يــومَ الغديـر نبيُّهـم * بخُمٍّ وأسمع بالنبــيِّ مناديــا
بأنِّي مولاكــم نعـمْ ووليُّكــم * فقالوا ولم يبدوا هنــاك التعاميا
إلهك مولانــا وأنـتَ وليُّنــا * ولاتجدن في الخلق للأمر عاصيا
فقــال له قـم يـا علـيُّ فإنَّني * رضيتك من بعـدي إماماً وهاديا
فمـن كنت مـولاه فهذا وليُّــه * فكونوا له أنصـارَ صدقٍ مواليا
هنــاك دعـا : اللَّهمَّ والِ وليَّه * وكُن للذي عادى عليَّاً معاديا
إذن فحديث الغدير حديث صحيح بلغ حدَّ التواتر ، جمع كثير من العلماء طرقه ـ كما رأينا سابقاً ـ لكنَّه لاقى من التأويل والكتمان ما لم يبلغه خبر قبله ولا بعده!
فصاحب ( البداية والنهاية ) على سبيل المثال ـ مع كل ما جمعه من طرق هذا الحديث ومصادره ـ يصرّ على اختزال دلالته إلى ردّ شكاوى نفر من الصحابة ، وفدوا معه من اليمن ، وكانوا على خطأ ، وهو على الصواب ، فيقول ابن كثير عن هذا الحديث : «فبيّن فيه فضل علي وبراءة عرضه ممّا كان تكلّم فيه بعض من كان معه بأرض اليمن ، بسبب ما كان صدر منه إليهم» إلى قوله : «وذكر من فضل علي وامانته وعدله وقربه إليه ما أزاح به ما كان في نفوس كثيرة من الناس منه» (5) .
والالتواء والتحميل واضحان جداً في ما ذهب إليه ابن كثير وغيره هنا (6) ، فشكاوى هؤلاء النفر كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد ردّها في محلّها وأمام شهودها ، وبيّن فيها ما يمكن أن يبيّنه ، وقد أوردها ابن كثير كلّها. فأمرها لا يستدعي جمع كلّ الحجيج الذين بلغوا مئة ألف أو يزيدون !! ولا يستدعي أيضاً التأخير كل هذا الوقت ، منذ أول وفودهم مكة ، وحتى انقضاء الحج وعودتهم من مكة صوب أوطانهم! إنه تحميل كبير لا يرتضيه ناقد له فقه بالأخبار والسيرة ، لكنها مشكلة الركون لما استقر في أذهانهم ، بفعل الواقع السياسي الذي جانب هذا الحديث الشريف ودلالاته الناصعة.
وأقل ما يقال في تأويل ابن كثير ومن ذهب مذهبه إنهم خلطوا ، إن لم يكونوا عامدين فغافلين ، بين قضيتين منفصلتين ، قضية الشكوى الخاصة ، وقضية خطبة الغدير العامة على الملأ من المسلمين.
____________
1) إعلام الورى 1 : 261 ، والآية من سورة المائدة 5 : 67 ، وقصة نزولها في علي عليه السلام في غدير خم رواها كثير من المفسرين ، منهم : الواحدي | اسباب النزول : 115 ، السيوطي | الدر المنثور 2 : 398 ، الشوكاني | فتح الغدير 2 : 60.
2) انظر : خصائص أمير المؤمنين | الحافظ النسائي : 21 ـ 22 مطبعة التقدُّم بالقاهرة ، وقد ذكر في حديث الغدير اسانيد عديدة وطرق شتَّى وألفاظ مختلفة ، بلغت تسع عشرة رواية ، مسند أحمد 1 : 119 من طريقين ، 152 ، 4 : 281 ، 370 ، 372 ، وسنن ابن ماجة 1 : 43|116 ، والمستدرك 3 : 109 ـ 110 ، والبداية والنهاية 5 : 208 ، الفصل الاخير من سنة 10 هـ.
3) مسند أحمد 4 : 281 ، فضائل الصحابة لاحمد بن حنبل 2 : 569|1016 و610|1042 ، اسد الغابة 4 : 28 ، تفسير الرازي 12 : 49 ـ 50 ، روح المعاني للآلوسي 6 : 194 ، الصواعق المحرقة : 44.
4) روى هذه الأبيات : الخوارزمي في مقتل الإمام الحسين 1 : 47 الطبعة الاولى ، والجويني في فرائد السمطين ، من طريقين 1 : 73 ـ 74 ، تحقيق محمَّد باقر المحمودي ، مؤسَّسة المحمودي ، 1978م ، وابن الجوزي في تذكرة الخواص : 33 ، والكنجي في كفاية الطالب : 64 ، تحقيق هادي الأميني ، دار احياء تراث أهل البيت ، ط3 ، وإعلام الورى 1 : 262 ـ 263. مع اختلاف في بعض الألفاظ.
5) البداية والنهاية 5 : 183 ـ 189.
6) في مناقشة دعاوى ابن كثير ، راجع : منهج في الانتماء المذهبي : 95 ـ 124.
المصدر: سلسلة المعارف الإسلامية" الإمام علي (ع) سيرةٌ وتاريخٌ" نقلاً من موقع شبكة نور الإسلام