المعروف أن سنة الرسول تعني ( قوله وفعله وتقريره ) وأبرز الأمثلة على صد ذلك النفر للمسلمين عن سنة الرسول ، وتحريض المسلمين على عدم اتباعها هو موقف ذلك النفر من جيش أسامة ! ! لقد عبأ الرسول ذلك الجيش بنفسه وعبأ ذلك النفر فيه ، وعين أسامة قائدا لهذا الجيش وأعطاه الراية بنفسه وحث الرسول هذا الجيش على الخروج سريعا ( 1 )
وقال الرسول : ( جهزوا جيش أسامة لعن الله من تخلف عنه ) ( 2 ) .
لكن ذلك النفر وأولياءهم كانوا يرون أن تأمير الرسول لأسامة على هذا الجيش وفيه كبار المهاجرين والأنصار عمل غير مناسب ، والأفضل أن يعين الرسول شخصا آخر مناسبا ! ! فاضطر الرسول أن ينهض من فراش المرض وهو معصوب ومحموم وأن يصعد المنبر وأن يدافع عن قراره بتأمير أسامة وأن يؤكد ذلك بقوله : ( . . . وأيم الله إنه لخليق بالإمارة ) ( 3 )
وبالرغم من كل هذا فقد أصروا على موقفهم بأن تأمير الرسول لأسامة عمل غير صائب ويتوجب على الرسول عزله واستبداله بشخص آخر ! ! ومن الطبيعي أن يصر الرسول على قراره فكان يقول : ( جهزوا جيش أسامة ، أرسلوا بعث أسامة ) ، وكرر ذلك مرات متعددة وهم متثاقلون ( 4 ) .
لقد نجحوا في تثبيط الناس ، ومارسوا ضغوطا شديدة على أسامة فطلب من الرسول أن يؤجل هذا الجيش ، فقال له الرسول : ( أخرج وسر على بركة الله ) ، وراجعه أسامة مرة ثانية طالبا منه أن يبقى فقال له الرسول : ( سر علي النصر والعافية ) فراجعه أسامة مرة ثالثة فقال له الرسول : ( انفذ لما أمرتك به ) ( 5 ) .
وبعد أن توفي الرسول أصروا على رأيهم ، وضغطوا على الخليفة الأول حتى ينزع أسامة لأن تأمير الرسول لأسامة ليس مناسبا ولا صحيحا ! ! ويبدو أن الذي كان يقود هذا التيار هو عمر بن الخطاب بدليل قول أبي بكر وفعله : فأخذ بلحية عمر بن الخطاب وقال له : ( ثكلتك أمك يا بن الخطاب وعدمتك استعمله رسول الله وتأمرني أن أنزعه ) ( 6 ).
لقد أدرك الخليفة الأول أنه لم يعد هنالك ما يبرر الاعتراض على تأمير أسامة وليس هنالك خطر من خروج جيش أسامة ، فقد تحققت الحكمة من تأخيرهم لهذا الجيش فعزل أسامة بهذا المرحلة لا يقدم ولا يؤخر ، ثم إن أسامة نفسه قد بايعهم ، فعزله سيثير امتعاضا عاما هم في غنى عنه ، لذلك عارضهم الخليفة وصد زعيمهم عمر بن الخطاب صدا عنيفا ! ! فتأمير الرسول لأسامة ، وكل ما تلفظ به الرسول في هذا الموضوع سنة واجبة الاتباع ، ومع هذا لم يتبعوها وحرضوا الناس على عدم اتباعها لقناعتهم بأنها ليست صوابا أو ليست صحيحة أو لأنها لا تتفق مع ما تهوى أنفسهم ، أو لأنها صدرت من الرسول وهو في حالة غضب ! ! أو لأنها من شؤون الدنيا ، وذلك النفر أعلم من رسول الله بشؤون دنياهم ! !
وما يعنينا أن ( قريشا ) التي حرضت عبد الله بن عمرو بن العاص على عدم كتابة كل ما يقوله الرسول ، أو ذلك النفر الذي يكنى عنه بقريش ، قد صدوا الناس عن اتباع سنة الرسول ، وثبطوهم عن العمل بها ، ومنعوهم من إعمالها ! ! لأنهم يخشون سنة الرسول التي وضعت الأمور في نصابها الشرعي ، وكشفت أطماعهم ومخططاتهم ! ! لذلك يريدون أن يخرجوا سنة الرسول من الخدمة أو يحيدونها ليتمكنوا من تنفيذ ما دبروا ! !
وحالوا بين النبي وبين كتابة وصيته وتوجيهاته النهائية أثنا مرض الرسول أراد أن يكتب وصيته وتوجيهاته النهائية للأمة ، وتلخيصه للموقف ، كما يفعل قادة الأمم ، وكما فعل أبو بكر وعمر في ما بعد وفوق هذا وذاك ، فإن كتابة الوصية حق إنساني لكل إنسان فكيف يسيد الخلق ، ومن المؤكد أن رسول الله قد ضرب موعدا لذلك ، ودعا بعض الصفوة من أصحابه ليشهدوا كتابة وصيته وتوجيهاته النهائية للأمة وتلخيصه للموقف .
ويبدو أن عمر بن الخطاب قد علم بذلك ، فأطلع أركان حزبه على ما سمع ، واتفق من أعوانه على أن يدخلوا حجرة الرسول في الوقت الذي حدده لكتابة وصيته وتوجيهاته النهائية ، وأن يحولوا بين الرسول وبين ما أراد كتابته ! ! لأنهم قد توقعوا أن ما سيكتبه الرسول غير مناسب ! ! حضر الذين اصطفاهم رسول الله ليكتب أمامهم وصيته وتوجيهاته النهائية ، وجلسوا بين يدي رسول الله ، وفجأة وبدون استئذان دخل عمر بن الخطاب ومعه أركان حزبه وعدد كبير من أعوانه الذين اتفق معهم على خطة تحول بين الرسول وبين ما أراد كتابته ، وجلسوا فقال الرسول للذين دعاهم : ( إئتوني بالكتف والدواة أو اللوح والدواة أكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده أبدا ) ( 7 ) .
وما إن أتم الرسول جملته حتى تصدى له عمر بن الخطاب وقال متجاهلا طلبه ، ومتجاهلا وجود الرسول ، وموجها كلامه للصفوة التي اختارها رسول الله لكتابة وصيته : ( لا حاجة لنا بكتابه إن المرض قد اشتد برسول الله ، إن النبي يهجر ! ! - أي لا يعي ما يقول - وعندكم القرآن حسبنا كتاب الله ) ( 8 ) .
وما إن تم عمر هذه الجملة حتى قال أعوانه وبصوت واحد : ( القول ما قاله عمر ، إن رسول الله يهجر ، ما له أهجر ! ! ما شأنه أهجر ، استفهموه إنه يهجر ) ( 9 ) متجاهلين بالكامل وجود الرسول وموجهين كلامهم لأولئك الذين استدعاهم الرسول . صعقت الصفوة التي اختارها النبي من هول ما سمعت فقالت : ( ألا تسمعون رسول الله يقول قربوا يكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده أبدا ) ( 10 ) .
فكرر عمر أقواله السابقة ، وعلى الفور ضج أتباع عمر فرددوا اللازمة التي اتفقوا عليها قبل دخولهم إلى منزل النبي : ( القول ما قاله عمر ، إن الرسول يهجر . . . ) ( 11 ) إلى آخر اللازمة ! ! .
كان واضحا أن عمر وحزبه على استعداد لفعل أي شئ يحول بين الرسول وبين كتابة ما أراد ! ! فطلت النسوة من وراء الستر وقلن لعمر وحزبه : ( ألا تسمعوا رسول الله يقول قربوا يكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده أبدا ) ! ! فصاح بهن عمر قائلا : ( إنكن صويحبات يوسف ) ( 12 ) .
وارتفعت الأصوات وكثر اللغو واللغط فتدخل الرسول فقال : ( دعوهن فإنهن خير منكم ) ( 13 ) ( دعوني فالذي أنا فيه خير مما تدعوني إليه ، قوموا عني لا ينبغي عندي تنازع ) ( 14 ) لقد اكتفى الرسول بتأكيداته اللفظية السابقة ، ورد على عمر وحزبه ردا يليق بجلال النبوة وطبيعة الظروف ، ولم يعد هنالك ما يوجب بقاءهم لقد تحقق ما تمناه عمر وحزبه ، إذ حالوا بين الرسول وبين كتابة ما أراد ، وكسروا خاطر النبي الشريف ، وقصموا ظهر الدين والأمة معا فلو أصر الرسول على الكتابة ، لأصروا على الهجر ، مع ما يفتحه هذا الادعاء الكاذب من مخاطر على الدين .
وفي ما بعد بين عمر بن الخطاب الغاية التي استهدفها هو وحزبه من الحيلولة بين الرسول وبين كتابة ما أراد فقال : ( حتى لا يجعل الأمر خطيا لعلي بن أبي طالب ) ( 15 ) فيؤكد تأكيداته اللفظية بتأكيد خطي ، وقد اعترف عمر بذلك لأنه كان يعتقد أن مصلحة الإسلام والمسلمين تقتضي أن لا يتولى الخلافة علي بن أبي طالب لحداثة سنة والدماء التي عليه ( 16 ) وأن اختيار الرسول للإمام علي كاختياره لأسامة عمل غير صحيح وغير مناسب ! ! فإنا لله وإنا إليه راجعون ! ! !
الرسول في بيته لا في بيت عمر ، ومن حق الإنسان أن يفعل في بيته ما يشاء ! ! ثم إن الرسول على الأقل مسلم ومن حق المسلم أن يكتب وصيته وبعد وفاة المريض الناس أحرار بإعمال هذه الوصية أو إهمالها ! ! ثم إن أبا بكر قد كتب وصيته ، في وقت قد اشتد فيه المرض أكثر مما اشتد برسول الله ، ولم يقول عمر الذي كان موجودا لا حاجة لنا بوصيتك حسبنا كتاب الله ، ثم إن عمر نفسه قد اشتد به الوجع أكثر مما اشتد برسول الله ، ومع هذا كتب وصيته وأصدر توجيهاته النهائية ونفذت كأنها كتاب إلهي ، ولم يقل لا عمر ولا غيره : ( حسبنا كتاب الله . . . ) ( 17 ) .
كيف يعتذرون عن هذه البائقة ! ! كيف يبررونها ! ! ! في وقت يطول أو يقصر سيخرجون من كهوف التاريخ ، وسيعيدون النظر بثقافة التاريخ التي أشربوها فتخيلوا الأبيض أسودا والأسود أبيضا ساعتها سيكتشفون كم ضيعوا في جنب الله تعالى ! ! وما يعنينا في هذ ا المقام أن الرسول أراد أن يكتب شيئا من سنته أثناء مرضه ، فاستمات عمر بن الخطاب وحزبه ليحولوا بين الرسول وبين كتابة ما أراد ، لأنهم من حيث المبدأ ضد كتابة السنة ، ومن يقف ضد كتابة السنة يقف ضد روايتها .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
( 1 ) المغازي للواقدي ج 3 ص 117 ، والسيرة الحلبية ج 3 ص 207 ، والطبقات الكبرى لابن سعد ج 2 ص 190 .
( 2 ) الملل والنحل للشهرستاني ج 1 ص 23 وج 1 ص 20 بهامش الفصل لابن حزم ج 1 ص 24 .
( 3 ) المغازي للواقدي ج 3 ص 119 ، والطبقات الكبرى ج 2 ص 190 ، وشرح النهج ج 1 ص 57 ، والسيرة الحلبية ج 3 ص 207 و 234 .
( 4 ) كنز العمال ج 10 ص 573 ، ومنتخب الكنز بهامش مسند الإمام أحمد ج 4 ص 182 .
( 5 ) المغازي للواقدي ج 3 ص 112 ، والطبقات الكبرى ج 3 ص 191 ، والسيرة الحلبية ج 3 ص 208 وص 235 ، والسيرة الدحلانية ج 2 ص 340 ، وشرح النهج ج 1 ص 160 ، وكنز العمال ج 10 ص 574 .
( 6 ) تاريخ الطبري ج 3 ص 226 ، والكامل لابن الأثير ج 2 ص 335 ، والسيرة الحلبية ج 3 ص 209 و 236، والسيرة الدحلانية ج 2 ص 340 .
( 7 ) راجع صحيح البخاري كتاب المرض باب قول المريض قوموا عني ج 3 ص 9 ، وصحيح مسلم آخر كتاب الوصية ج 5 ص 75 وج 2 ص 16 ، وصحيح مسلم بشرح النووي ج 11 ص 94 و 95 ، ومسند أحمد ج 1 ص 355 وج 4 ص 356 ، وصحيح البخاري ج 4 ص 31 ، وتاريخ الطبري ج 2 ص 194 ، والكامل لابن الأثير ج 2 ص 320 وتذكرة الخواص للسبط ابن الجوزي ص 62 ، وسر العالمين ، وكشف ما في الدارين لأبي حامد الغزالي .
( 8 ) المصدر السابق .
( 9 ) المصدر السابق .
( 10 ) المصدر السابق .
( 11 ) المصدر السابق .
( 12 ) الطبقات الكبرى لابن سعد ج 2 ص 243 - 244 .
( 13 ) المصدر السابق .
( 14 ) راجع صحيح البخاري كتاب المرض باب قول المريض قوموا عني ج 3 ص 9 ، وصحيح مسلم آخر كتاب الوصية ج 5 ص 75 وج 2 ص 16 ، وصحيح مسلم بشرح النووي ج 11 ص 94 و 95 ، ومسند أحمد ج 1 ص 355 وج 4 ص 356 ، وصحيح البخاري ج 4 ص 31، وتاريخ الطبري ج 2 ص 194 ، والكامل لابن الأثير ج 2 ص 320 ، وتذكرة الخواص للسبط ابن الجوزي ص 62 ، وسر العالمين ، وكشف ما في الدارين لأبي حامد الغزالي .
( 15 ) شرح النهج لعلامة المعتزلة ابن أبي الحديد ج 7 ص 114 سطر 27 الطبعة الأولى بيروت وج 2 ص 79 سطر 3 تحقيق أبو الفضل مكتبة الحياة ، وج 3 ص 167 طبعة دار الفكر .
( 16 ) شرح النهج ج 2 ص 18 ، والطبقات الكبرى لابن سعد ج 3 ص 130 ، وكتابنا المواجهة ص 473.
( 17 ) سلطنا الأضواء في البحوث السابقة على مرض أبي بكر وعمر وكتابتهما لوصيتيهما وتوجيهاتهم النهائية ، وكيف نفذت كأنها وحي من الله تعالى ، وتوفيرا لوقتك راجع في هذا الخصوص تاريخ الطبري ص 429 ، وسيرة عمر لابن الجوزي ص 37 ، وتاريخ ابن خلدون ج 2 ص 85 ، وكتابنا المواجهة ص 540 لترى كيف أتاحوا الفرصة لأبي بكر ليكتب وصيته وتوجيهاته النهائية وراجع تاريخ الطبري طبعة أوروبا ج 1 ص 2138 لترى موقف عمر المؤيد لوصيته وتوجيهات أبي بكر ، وراجع الإمامة والسياسة ج 1 ص 15 . وما فوق ، والطبقات الكبرى لابن سعد ج 2 ص 364 وج 3 ص 347 ، وأنساب الأشراف ج 5 ص 18 ، وتاريخ الطبري ج 5 ص 23 لترى كيف كتب عمر وصيته وتوجيهاته النهائية وكيف نفذت مع أن فيها أوامر بقتل نفوس حرم الله قتلها .
أين سنة الرسول و ماذا فعلوا بها ؟ | القسم : مكتبة المُستبصرين