في عهد أبي بكر الخليفة الأول
كانت ( قريش ) أو ذلك النفر من قريش ينهى سرا عن كتابة ورواية سنة الرسول ، ويشكك بصحة وصواب جانب من سنة الرسول ، وأثناء مرض الرسول ، كشف ذلك النفر عن نفسه ، فأخذ ينهى عن كتابة سنة الرسول ويحرض علنا على عدم اتباعها ! ! معبرا عن قناعته الخاصة من خلال قوته ! ! وعندما استولى ذلك النفر على منصب الخلافة أعلن رسميا وعلى مستوى الدولة منع كتابة ورواية سنة الرسول ! !
ويبدو أن أول أمر أو مرسوم قد أصدره الخليفة الأول كان يتضمن قراره بمنع رواية وكتابة سنة الرسول . قال الذهبي في ترجمة أبي بكر : إن الصديق - يعني أبا بكر - قد جمع الناس بعد وفاة نبيهم فقال : ( إنكم تحدثون عن رسول الله ( ص ) أحاديث تختلفون فيها ، والناس بعدكم أشد اختلافا ، فلا تحدثوا عن رسول الله شيئا ، فمن سألكم فقولوا بيننا وبينكم كتاب الله ، فاستحلوا حلاله ، وحرموا حرامه ) ( 1 ) .
فالخليفة الأول يرى أن رواية سنة الرسول تسبب الخلاف بين أمة متفقة في عهده ، فإذا حدث الخلاف في عهده ، فإن الخلاف في العهود اللاحقة سيكون شديدا ، وبصفته خليفة للمسلمين ، ولأن سنة الرسول تسبب الخلاف والاختلاف بين المسلمين ، وحرصا من الخليفة على وحدتهم خلف قيادته وقطعا لدابر الخلاف والاختلاف فإنه يأمر المسلمين ( أن لا يحدثوا شيئا عن رسول الله ) ! !
وإغلاقا لباب التساؤل عن طريقة معرفة الحكم الشرعي قال الخليفة الأول : " فمن سألكم فقولوا : بيننا وبينكم كتاب الله فاستحلوا حلاله وحرموا حرامه " أي أن الأحكام الشرعية يمكن استخراجها من القرآن الكريم ، ويمكن الاستغناء بالقرآن الكريم عن سنة الرسول ! ! فالقرآن الكريم هو البديل لإغلاق باب التحديث عن رسول الله ! !
وهذه النظرية متطابقة مع نظرية عمر بن الخطاب فعندما حال هو وحزبه بين رسول الله وبين كتابة ما أراد قال عمر أمام الرسول والحاضرين : ( إن المرض قد اشتد برسول الله أو قال إن النبي يهجر وعندكم القرآن حسبنا كتاب الله ) فقناعة الاثنين كانت راسخة بأن القرآن وحده يكفي وليست هنالك حاجة لسنة الرسول ! ! !
والذي يفهم من مرسوم الخليفة الأول يفيد : منع المسلمين من رواية أي شئ على الإطلاق من سنة الرسول بدليل قول الخليفة ( فلا تحدثوا عن رسول الله شيئا ) فهذا المنع شامل لكل شئ حسب الظاهر ، ولكن في الحقيقة فإن الخليفة الأول لم يقصد هذا الإطلاق فهو الذي يقرر ما ينبغي تطبيقه أو ما لا ينبغي تطبيقه من سنة الرسول ، فلا ضرر من رواية بعض سنة الرسول طالما أن بيديه مفاتيح إعمالها أو إهمالها .
ومن المؤكد أن الخليفة قد قصد سنة الرسول المتعلقة بمن يخلفه أو بتعبير أدق المتعلقة باستخلاف الرسول للإمام علي بن أبي طالب ، والمتعلقة بمكانة أهل بيت النبوة ، لأن الخليفة كان في ذلك الوقت يصب حام غضبه على الإمام علي خاصة ، وعلى أهل بيت النبوة عامة ! ! ! وما يؤكد صحة ما ذهبنا إليه أن الخليفة نفسه كان يحتج بأحاديث رسول الله أثنا مواجهته للإمام علي ولأهل بيت النبوة ، فعندما حرمهم من تركة الرسول قال : ( إنه سمع الرسول يقول : الأنبياء لا يورثون ) ( 2 ) .
وعندما حرمهم من سهم ذوي القربى ادعى بأنه سمع رسول الله يقول : ( سهم ذوي القربى للقربى حال حياتي وليس لهم بعد مماتي ) ( 3 ) .
وبغض النظر عن صحة أو عدم صحة هذين الحديثين ، فإن الخليفة قد احتج بما نسبه للرسول ، فلو كان منعه للحديث شاملا لما احتج بما سنبه للرسول ! ! ! لقد أراد الخليفة أن يمنع الأحاديث المتعلقة بمن يخلف النبي ، والتي تؤكد بأن الرسول قد استخلف الإمام عليا وأحد عشر من ذريته ومن صلب علي والأحاديث التي أعطت المراتب السنية للإمام علي ، وحددت مكانة أهل بيت النبوة .
فإذا بقي باب التحديث عن رسول الله فما الذي يمنع أنصار الشرعية الإلهية من أن يرووا مثلا قوله ( ص ) : ( من كنت وليه فهذا علي وليه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه وانصر من نصره ، واخذل من خذله ) وما الذي يمنعهم من أن يرووا حديث الثقلين ، أو حديث السفينة ، أن يذكروا المسلمين ببيعتهم للإمام علي في غدير خم ، أو قول الرسول لعلي كذا وكذا ! ! ! .
ولكن لو كشف الخليفة عن قصده هذا لعثر حيث أراد أن ينهض ، لذلك رأى أن يكون المنع شاملا طالما أنه هو الذي يعمل أو يهمل ما شاء من سنة الرسول ! !
وما يؤكد ما ذهبنا إليه ، هو تعليل الخليفة للمنع خشية الاختلاف فعندما يروي الرواة حديث الثقلين مثلا ، أو أحاديثا عن مراتب الإمام علي في الوقت الذي يرى فيه المسلمون الخليفة وأعوانه ينكلون بالإمام وأهل بيته ، فإن المسلمين الذي انقادوا للخليفة الجديد سيتعاطفون مع الإمام علي وأهله بيته أو على الأقل فإن قسما منهم سيفعل ذلك ، وقد ينمو هذا التعاطف ويتحول إلى ولاء عندئذ ينشق المجتمع إلى قسمين قسم يؤيد الدولة الفعلية ، وآخر يؤيد الإمام عليا وينمو الخلاف والاختلاف بين الفريقين ، ويشتد مع الأيام ، وتفوت الحكمة من استيلائهم على منصب الخلافة ، ويفوز الإمام علي وأهل بيت النبوة ويجمعوا النبوة والخلافة معا ويقع المحظور ! !
لذلك رأي الخليفة من الأنسب أن يكون إعلانه عن منع رواية أحاديث الرسول شاملا وهذا تقدير منطقي وعلماني تقتضيه مصلحة المحافظة على الملك أو الخلافة ! ! !
بغض النظر عن انسجامها أو عدم انسجامها مع الشرعية الإلهية تأسيسا وممارسة ! ولك أن تتصور حجم تأثير هذا المرسوم على نظرة المسلمين لسنة رسول الله ، فإذا كان صاحب الرسول في الغار وصهره ، وخليفته يأمر الناس بأن لا يحدثوا أي شئ عن رسول الله بدعوى أن التحديث عن رسول الله يسبب الخلاف والاختلاف ! ! فكيف تكون نظرة حديثي العهد بالإسلام إلى سنة رسول الله ! ! !
لقد تم فتح باب الاستهانة بسنة رسول الله رسميا وعلى مستوى الدولة ، لذلك فإن أية مجهودات فردية لإغلاق هذا الباب أو لتغيير المسار الرسمي للدولة تبقى محدودة الأثر ! !
قد يقول قائل إن الخليفة الأول ، قد أمر المسلمين بأن لا يرووا شيئا عن رسول الله ولكنه لم يأمرهم بأن لا يكتبوا شيئا عن رسول الله ، لكن مرسوم الخليفة من الوضوح بحيث أنه لا يحتمل مثل هذا التأويل ، فالخليفة قد جزم بأن التحديث عن رسول الله يسبب الخلاف والاختلاف ، وبالتالي فقد أمر المسلمين بأن لا يحدثوا أي شئ عن رسول الله ، وسواء أخذ هذا التحديث صورة المشافهة أو صورة الكتابة فإنه ممنوع حسب نص هذا المرسوم ، لأن الخليفة أراد أن يحتاط فيقطع دابر الخلاف بقطع مصدره أو منبعه القادم من سنة رسول الله ، فإذا نهى الخليفة عن التحديث فهو ضمنا ينهى عن الكتابة ، لأنها أدوم وأبلغ في التأثير والثبات والشيوع والانتشار .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
( 1 ) تذكرة الحفاظ للذهبي ج 1 ص 2 - 3 ، والأنوار الكاشفة ص 53 ، وتدوين السنة شريفة للسيد محمد رضا الحسيني الجلالي ص 423.
( 2 ) صحيح الترمذي ج 1 ص 11 ح 60 ، وسنن الترمذي ج 7 ص 1009 ، والطبقات ج 5 ص 77 .
( 3 ) صحيح مسلم ج 3 ص 12 ، وصحيح البخاري ج 1 ص 81 ، وسنن أبي أبي داود ج 1 ص 212