إن موضوع الفتنة التي نشبت في عهد الخليفة الثالث عثمان بن عفان، هي أحد أكثر الاُمور حساسية في التاريخ الاسلامي دون شكّ، وذلك لما أورثته هذه الفتنة من مصائب ابتليت بها الاُمة، وكانت فاتحة للحروب التي دارت بين أبناء الاُمة الواحدة. فالفتنة هي التي أدت الى أن يتواجه المسلمون بسيوفهم في معارك طاحنة لأول مرة، مخلّفة آلاف الضحايا من المسلمين، ومن بينهم عدد من كبار الصحابة.
وقد كثر التأليف في موضوع الفتنة في عصرنا الحاضر، فلا تكاد تجد باحثاً يؤرخ لبعض قضايا الاسلام، إلاّ ويذكر في مقدمة أسباب الخلاف بين المسلمين - قديماً وحديثاً- موضوع الفتنة هذه التي فرقت شمل المسلمين.
إلاّ أن آراء الباحثين في الفتنة قد تشعبت بحسب الميول والاتجاهات، فاختار بعضهم الركون الى المصادر القديمة بشكل تقليدي محض، ودون أية محاولة للتمحيص أو تحليل للأحداث تحليلا نقدياً موضوعياً، مكتفين بالقاء تبعات الفتنة على أشخاص - وكما ورد في تاريخ الطبري- كأمثال عبدالله بن سبأ وأعوانه، معتبرين أن هؤلاء هم المسؤولون وحدهم عما جرى من أحداث أدت الى وقوع هذه الفتنة وما أنتجت بعد ذلك، وفي غمرة انسياق هؤلاء الباحثين وراء هذا الرأي الذي تولد من اعتمادهم على تاريخ الطبري - برواية سيف بن عمر- الذي تفرد بذكر هذا السبب، متناسين أن القول بذلك يجرّ الى الاعتراف بأن الاُمة الإسلامية -ومن ضمنها بعض كبار الصحابة- قد بلغت بهم الغفلة والسذاجة درجة جعلتهم يصبحون أتباعاً لهذا اليهودي المنافق الذي دخل الاسلام كيداً بأهله، واستطاع بدهائه الخارق ومكره أن يستخف عقولهم ويجعلهم أداة طيعة في يده، يؤلبهم على بعضهم حتى نجح في دفعهم للانتقاض على خليفتهم وقتله في عقر داره على مرأى ومسمع من اُلوف الصحابة الذين لم يحركوا ساكناً لدفع هذا المنكر. ولعل هذا الأمر قد أوقع القدماء أيضاً في حرج شديد، فلم يجدوا تبريراً لهذا الفعل المشين إلاّ الادعاء بأن عثمان قد استسلم لقتلته بوصيته من النبي (صلى الله عليه وآله) حقناً لدماء المسلمين -كما يدعون- ولسوف نناقش هذا الادعاء فيما بعد.
أما القسم الآخر من الباحثين - ممن أدرك عقم النظرية السابقة وتهافتها- فقد اتّجه الى إلقاء التبعة على الظروف السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وما حدث من تغيّر في تركيبة المجتمع الاسلامي ودور الأعراب والعصبية القبلية في تأجيج هذه الفتنة، ومعظم هذه الآراء متأثرة بالأبحاث الاجتماعية التي تتبناها بعض مدارس الغرب بعد عصر النهضة، ومع أهمية هذه الاُمور فعلا ودورها في وقوع الفتنة، إلاّ أنها ليست كل الأسباب، بينما ألقى البعض اللوم على سياسات عثمان المالية والإدارية وتعيين الولاة غير الأكفاء من ذوي قرباه، مما أثار موجة السخط العام.
والحقيقة فإن بعض تلك العوامل مجتمعة. إضافة الى عوامل اُخرى، قد تضافرت لتؤدي في النهاية الى إشعال نيران هذه الفتنة التي هزت أركان المجتمع الإسلامي وأدت الى التخلي في النهاية عن مبدأ الشورى أو الاختيار، وتحوّل الخلافة الإسلامية الى ملك وراثي تتداوله قبائل معينة من قريش، أدت بدورها في نهاية المطاف الى حدوث تغييرات مهمة في المجتمع الإسلامي الذي بدأ يفقد تماسكه الروحي، وتحول الصراع على السلطة الى داء عضال، كان من نتائجه تطرّق الضعف الى المجتمع الإسلامي، وتحوّل خلفاء المسلمين - فيما بعد- الى اُلعوبة في أيدي المتسلطين من الغرباء، حتى جاءت الضربة القاضية بسقوط الخلافة وإلغائها بشكل نهائي.
الصحوة (رحلتي الي الثقلين) صباح علي البياتي