إن الذين وردوا على الأنصار هم:
1 ـ أبو بكر بن أبي قحافة.
2 ـ عمر بن الخطاب.
3 ـ أبو عبيدة.
وأضاف بعضهم: سالماً مولى أبي حذيفة.. وربما أضيف خالد أيضاً، ولعلهما جاءا متأخرين..
وقد استطاع هؤلاء بمساعدة أسيد بن حضير، وعويم بن ساعدة، ومعن بن عدي، وبشير بن سعد أن يبتزوا الأوس والخزرج ما كانوا يرونه في أيديهم..
ولم يكلفهم الحصول على هذا الأمر سوى كلمات يسيرة أوردها أبو بكر، وهي التالية: (إن هذا الأمر إن تطاولت إليه الخزرج لم تقصر عنه الأوس، وإن تطاولت إليه الأوس لم تقصر عنه الخزرج، وقد كانت بين الحيين قتلى لا تنسى، وجراح لا تداوى.
فإن نعق منكم ناعق جلس بين لحيي أسد، يضغمه المهاجري، ويجرحه الأنصاري.
وأنتم يا معشر الأنصار من لا ينكر فضلكم في الدين، ولا سابقتكم العظيمة في الإسلام، رضيكم الله أنصاراً لدينه ولرسوله، وجعل إليكم هجرته، وفيكم جلة أزواجه وأصحابه، فليس بعد المهاجرين الأولين عندنا بمنزلتكم، فنحن الأمراء، وأنتم الوزراء)(1).
ونوضح بعض مرامي هذه الخطبة على النحو التالي:
1 ـ بدأ أبو بكر خطابه برشوة شكلية للأنصار، حين ذكر فضلهم وسابقتهم، واعتبرهم أول من آمن ونصر، إلخ.. فأرضى بذلك غرورهم، واستمال الكثيرين منهم إليه، وأوحى لهم بأنه يريد إنصافهم، وليس بصدد التنافس معهم، ومفاخرتهم..
2 ـ فإذا عاد وقدم المهاجرين عليهم، وجعل الأنصار في درجة تلي درجتهم، فلن يتهم بالتعصب لفريقه، ويكون قد مهد السبيل لترتيب الآثار على هذا التقديم، من أسهل طريق، وتأتي تلك النتيجة طبيعية ومقبولة..
3 ـ وقد حرص على أن لا يطلق تفضيله للمهاجرين، لأن ذلك سيكون غير مقبول، فخص منهم المهاجرين الأولين بالتقديم.
4 ـ ثم تحاشى أي تعبير يدل على استبعاد الأنصار، بل أزاحهم بطريقة توحي بأنه يريد مشاركتهم، حين قال لهم: نحن الأمراء، وأنتم الوزراء..
5 ـ ثم أذكى طموح بعض الأنصار، واستفزهم لمناوأة سعد بن عبادة ومنافسته، حين حرك فيهم عرقهم القبلي وعصبيتهم العشائرية التي وصفها النبي بأنها منتنة.. حيث ذكر: أن الأمير إن كان من الأوس، فلن ترضى به الخزرج، وكذلك العكس.
6 ـ ثم ذكرهم بإحن الجاهلية، وبما كان بينهم من حروب وترات، وآلام وجراح، فادعى لهم أنها لا تنسى؟!
مع أن الإسلام كان قد أخمدها، وكان البلسم الشافي لها، لو التزموا بتعاليمه، ومفاهيمه..
7 ـ فضعف بذلك أمر سعد، ثم أكد هذا الإستضعاف العملي لسعد وللأنصار حين تهددهم عمر، وأهان سعداً، واعتبره هو وكل من يطلب هذا الأمر من الأنصار ناعقاً..
8 ـ ثم تقدم أبو بكر خطوة أخرى، فجعل المهاجرين حكاماً على الناس، يقررون لأنفسهم ولغيرهم، ويعزلون وينصبون، وأخرج الأنصار عن دائرة المشاركة في الإختيار.
9 ـ ثم استدل على أحقية المهاجرين من الأنصار بأنهم أولياء الله وعشيرته، فأسقط بذلك حجج الأنصار، وجعلهم غرباء عن هذا الأمر، مدلين بباطل، متهماً إياهم بأنهم بصدد إعادة حكم الجاهلية.. وهو ما لا يرضاه منهم أحد من المسلمين.
10ـ ثم أخرج موقف الأنصار عن دائرة الحكمة، والتعقل والتدبير السليم، ليصبح إفساداً لأمر الناس، ومن أعمال الفتنة
11 ـ وبذلك يصبح الأنصار موضع التهمة، ويثير الشك والشبهة في أمرهم لدى كل من يرغب بمساعدتهم والكون إلى جانبهم، فإنه يصبح متهماً مثلهم بإثارة الفتنة.
12ـ ثم أدخل اليأس إلى نفوس الأنصار في أن تستقيم لهم الأمور، حين قرر أن العرب لا تدين إلا لهذا الحي من قريش.
وعمر بن الخطاب أيضاً:
ثم جاء عمر بن الخطاب ليؤكد ذلك التهديد والوعيد، وسائر المضامين التي
سجلها أبو بكر، فقال مجيباً على مقولة أحد الأنصار: منا أمير ومنكم أمير بقوله:
(لا يجتمع اثنان في قرن، والله لا ترضى العرب أن يؤمروكم ونبيها من غيركم، ولكن العرب لا تمتنع أن تولي أمرها من كانت النبوة فيهم، وولي أمورهم منهم.
ولنا بذلك على من أبى من العرب الحجة الظاهرة، والسلطان المبين.
من ذا ينازعنا سلطان محمد وإمارته، ونحن أولياؤه وعشيرته إلا مدل بباطل، أو متجانف لإثم، أو متورط في هلكة)(2).
وبعد أن أظهر بشير بن سعد اقتناعه بحجة أبي بكر وعمر، وتسليمه بأن لا نصيب للأنصار في الحكم والحاكمية، بادر أبو بكر إلى إظهار زهده في هذا الأمر، والتحدث بطريقة توحي بأنه ينأى بنفسه عن هذا المقام، وأنه إنما كان يتكلم لمجرد إحقاق الحق، فقال مشيراً إلى عمر، وإلى أبي عبيدة: قد رضيت لكم أحد هذين الرجلين، فأيهما شئتم فبايعوا.
لقد قال أبو بكر هذا مع علمه بأنهما سيردان الأمر إليه، ربما لأنهم كانوا متفقين على ذلك.
وربما لعلمه بعدم جرأتهما على القبول بالتقدم عليه، لأكثر من سبب..
وهكذا كان، فبايعاه وسبقهما بشير بن سعد بالبيعة، وبايعه أيضاً قريبه أسيد بن حضير، وعويم بن ساعدة، ومعن بن عدي، وسالم مولى أبي حذيفة فيما قيل.
وترك هؤلاء سقيفة أولئك، ليواصلوا فيها نزاعاتهم، وخرجوا إلى المسجد لمعالجة أمر علي وبني هاشم، وجماعات آخرين، وذلك بوضعهم أمام الأمر الواقع، ومواجهتهم بأمر قد قضي، وإيهامهم بأنه لا ثمرة، بل لا مجال للنقاش فيه، ولا للعودة عنه.
____________________________________
(1)- راجع: البيان والتبيين ج3 ص181 وراجع: تاريخ الأمم والملوك ج2 ص457 وبحار الأنوار ج28 ص335 والكامل في التاريخ ج2 ص329 وراجع: المصنف لابن أبي شيبة ج8 ص571.
(2)- راجع: الإحتجاج للطبرسي ج1 ص92 وبحار الأنوار ج28 ص181 و 345 وشرح نهج البلاغة للمعتزلي ج6 ص9 والسقيفة وفدك للجوهري ص60 و تاريخ الأمم والملوك ج2 ص457 والإمامة والسياسة (بتحقيق الزيني) ج1 ص15 و (بتحقيق الشيري) ج1 ص25 والشافي في الإمامة للشريف المرتضى ج3 ص188 وحياة الإمام الحسين (عليه السلام) للقرشي ج1 ص248.
مركز الابحاث العقائدية