جرت العادة منذ عهد النبي (صلى الله عليه وآله) أن يؤخذ من الغنائم التي يحصل عليها المسلمون في الحرب خمسها لتوزع على الأوجه التي أمر الله سبحانه وتعالى بها، وأما الأربعة أخماس المتبقية فهي حق المقاتلين المسلمين، حيث كانت توزع عليهم. ولكن معاوية خالف أمر الله وسنة نبيه (صلى الله عليه وآله) في ذلك، عندما أراد أن يستصفي الذهب والفضة من تلك الغنائم لنفسه بغير وجه حق، فقد أخرج الحاكم النيسابوري وغيره من الحفاظ والمؤرخين، عن الحسن، قال: بعث زياد بن الحكم بن عمرو الغفاري على خراسان، فأصابوا غنائم كثيرة، فكتب إليه زياد: أما بعد، فإن أمير المؤمنين كتب أن يصطفى له البيضاء والصفراء،ولا تقسم بين المسلمين ذهباً ولا فضة.
فكتب اليه الحكم: أما بعد، فإنك كتبت تذكر كتاب أمير المؤمنين، وإني وجدت كتاب الله قبل كتاب أمير المؤمنين، وإني أُقسم بالله لو كانت السماوات والأرض رتقاً على عبد، فاتقى الله، لجعل له من بينهم مخرجاً، والسلام.
أمر الحكم منادياً فنادى: أن اغدوا على فيئكم، فقسمه بينهم، وإن معاوية لما فعل الحكم في قسمة الفيء ما فعل، وجّه إليه من قيّده وحبسه، فمات في قيوده ودُفن فيها، وقال: إني مخاصم(1).
فمعاوية يريد أن يصطفي كل الذهب والفضة من أموال الغنائم التي هي حق للمقاتلين الذين أصابوها برماحهم وسيوفهم وبذلوا فيها دماءهم، مع العلم أن الخليفة - لو افترضنا صحة خلافته- ليس له الحق في التحكم في غير الخمس، وهذا الخمس ليس حقاً خالصاً له، بل هو لبيت المال، ولإنفاقه على مصالح المسلمين، وكذلك كانت سيرة النبي (صلى الله عليه وآله)، فعن عبدالله بن شقيق، عن رجل من بلقين (عندما سأل رسول الله عن بعض الاُمور حتى قال): قلت: فما تقول في الغنيمة؟ قال: "لله خمسها، وأربعة أخماسها للجيش". قلت: فما أحد أولى به من أحد؟ قال: لا، ولا السهم تستخرجه من جنبك أحق به من أخيك المسلم(2).
فأخذ شيء من أموال الفيء بغير وجه حق يعدّ من الغلول، وقد شدّد النبي (صلى الله عليه وآله) على تحريم ذلك مهما كان هذا الشيء الذي يغلّه المرء بسيطاً، وأن الشهيد الذي يغلّ شيئاً من الغنم لا يعدّ شهيداً، ويدخل النار بسبب ذلك وقد استفاضت الأحاديث النبوية التي تؤكد ذلك، فعن أبي هريرة قال: خرجنا مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) يوم خيبر، فلم يغنم ذهباً ولا فضة، إلاّ الأموال والثياب والمتاع، فأهدى رجل من بني الضّيب، يقال له رفاعة بن زيد لرسول الله (صلى الله عليه وآله) غلاماً يقال له مِدعَم. فوجّه رسول الله (صلى الله عليه وآله) الى وادي القرى، حتى إذا كان بوادي القرى، بينما مدعم يحط رحلا لرسول الله (صلى الله عليه وآله)، إذا سهم عائر فقتله، فقال الناس: هنيئاً له الجنة. فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): "كلا والذي نفسي بيده، إن الشملة التي أخذها يوم خيبر من المغانم، لم تُصبها المقاسم، لتشتعل عليه ناراً"، فلما سمع ذلك الناس، جاء رجل بشراك أو شراكين الى النبي (صلى الله عليه وآله)، فقال: (شراك من نار، أو شراكان من نار)(3).
وعن خالد الجهني، قال: توفي رجل يوم حنين، وإنهم ذكروه لرسول الله (صلى الله عليه وآله)، فزعم زيد أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: "صلّوا على صاحبكم" فتغيرت وجوه الناس لذلك، فزعم زيد أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: (إن صاحبكم قد غلَّ في سبيل الله)، قال: ففتحنا متاعه فوجدنا خرزات من خرز يهود، ما تساوي درهمين(4).
ومن المعلوم أن النبي (صلى الله عليه وآله) نهي عن الصلاة على المنافقين، فالذي يغل- وإن قتل بعد ذلك في سبيل الله- يصبح في زمرة المنافقين، والمنافقون في الدرك الأسفل من النار.
قال النووي: إن الغلول يمنع من إطلاق اسم الشهادة على من غل(5).
كما جاء عن عمرو بن شعيب، أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) حين صدر من حُنين وهو يريد الجعرانة، سأله الناس حتى دنت ناقته من شجرة فتشبكت بردائه حتى نزعته عن ظهره، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): (ردّوا علي ردائي، أتخافون أن لا أُقسم بينكم ما أفاء الله عليكم والذي نفسي بيده لو أفاء الله عليكم سمر تهامة نَعماً لقسمته بينكم، ثم لا تجدوني بخيلا ولا جباناً ولا كذاباً). فلما نزل رسول الله (صلى الله عليه وآله)، قام في الناس فقال (أدوا الخياط والمخيط، فإن الغلول عارٌ ونارٌ وشنار على أهله يوم القيامة". ثم تناول من الأرض وبرة من بعير أو شيئاً ثم قال: "والذي نفسي بيده، مالي مما أفاء الله عليكم ولا مثل هذه إلاّ الخمس، والخمس مردود عليكم)(6).
فهذه هي سيرة النبي (صلى الله عليه وآله) في الفيء، وهذه هي تحذيراته الشديدة من الغلول مهما كان بسيطاً، ورغم ذلك فإن معاوية يضرب بهذه السيرة وهذه النواهي عرض الحائط، ويريد أن يغل ذهب المغنم وفضته كله!
________________________________
(1) - المستدرك 3: 442، تاريخ الطبري حوادث سنة 50، الكامل في التاريخ 2: 487 حوادث سنة 50، البداية والنهاية 8: 47، تهذيب التهذيب 2: 392، الاستيعاب 1: 412 ترجمة الحكم، اسد الغابة 1: 51 ترجمة الحكم.
(2) - سنن النسائي: كتاب قسم الفي والغنيمة.
(3) - صحيح البخاري 8: 179 كتاب الايمان والنذور، باب هل يدخل في الايمان والنذور الأرض والغنم والزروع والامتعة، الموطأ 2: 459 كتاب الجهاد، باب ما جاء في الغلول، صحيح مسلم 1: 148 كتاب الايمان، باب غلظ تحريم الغلول.
(4) - الموطأ 2: 458، سنن ابي داود: كتاب الجهاد، باب في تعظيم الغلول، سنن النسائي: كتاب الجنائز، باب الصلاة على من غل، سن ابن ماجة: كتاب الجهاد باب الغلول ح 2848.
(5) - شرح صحيح مسلم 2: 489.
(6) - الموطأ 2: 457 باب ما جاء في الغلول، سنن النسائي: كتاب قسم الفيء.
من كتاب الصحوة (رحلتي الي الثقلين) صباح علي البياتي