لا شك وأن الكثير من القرّاء يعتقدون أن العباسيين قد ظلوا أعداء للاُمويين يحملون لهم الضغينة منذ بداية عهدهم وحتى انقراض ملكهم على أيدي التتار!
إلاّ أن من له إلمام بالتاريخ السياسي والظروف والملابسات التي اكتنفت قيام الدولة العباسية على أنقاض دولة بني اُمية، وما واجهته الدولة العباسية من مشاكل فيما بعد، وقيام الثورات المستمرة على العباسيين، يعلم أن موقف العباسيين من معاوية وبني اُمية لم يكن موقفاً ثابتاً، بل إنه تعرض للتغيّر حسب الظروف السياسية التي سادت في عهود الخلفاء العباسيين.
لقد شاد العباسيون ملكهم على أكتاف أبناء عمومتهم العلويين، وحيث إن الناس لم يكونوا يعرفون لبني العباس حقاً في الخلافة، وإنما كان معظمهم يعتقد بأحقية العلويين في الخلافة، لاعتقادهم أن الاُمويين قد غصبوهم إياها، وبسبب ميل الناس الى أبناء علي بن أبي طالب باعتبارهم سلالة الرسول (صلى الله عليه وآله)، لذا فقد كانت دعوة العباسيين "للرضا من أهل البيت"(1) دون تحديد، ويتبيّن هذا المنحى في أول خطبة خطبها أبو العباس السفاح ومن بعده عمه داود بن علي من على منبر الكوفة -وهي معقل العلويين- فيما يرويه ابن أبي الحديد، حيث يقول:
لما صعد أبو العباس منبر الكوفة، حُصر فلم يتكلم، فقام داود بن علي- وكان تحت منبره حتى قام بين يديه تحته بمرقاة- فاستقبل الناس وقال: أيها الناس، إن أمير المؤمنين يكره أن يتقدم قوله فعله، ولأثر الفعال أجدى عليكم من تشقيق المقال، وحسبكم كتاب الله تمثلا فيكم، وابن عم رسول الله (صلى الله عليه وآله) خليفة عليكم، اُقسم بالله قسماً برّاً، ما قام هذا المقام أحد بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) أحق به من علي بن أبي طالب، وأمير المؤمنين هذا! فليهمس هامسكم، ولينطق ناطقكم...(2).
كما وأن أعظم القوّاد الذي كان له اليد الطولى في تشييد ملك العباسيين، أبو مسلم الخراساني يعترف في كتاب بعثه الى أبي جعفر المنصور، بعدم أحقية العباسيين في الحكم على العلويين، قال فيه: أما بعد، فقد كنت اتخذت أخاك إماماً وجعلته على الدين دليلا لقرابته، والوصية التي زعم أنها صارت إليه، فأوطأ بي عشوة الضلالة، وأرهقني في ربقة الفتنة، وأمرني أن آخذ بالظنة، وأقتل على التهمة، ولا أقبل المعذرة، فهتكتُ بأمره حرمات حتم الله صونها، وسفكتُ دماءً فرض الله حقنها، وزويت الأمر عن أهله، ووضعته في غير محله!(3).
وقد استفتح العباسيون عهدهم بالانتقام من بني اُمية، أحيائهم وأمواتهم على السواء! وكانت دعواهم في ذلك، أنهم ينتقمون من الاُمويين لما فعلوه بأهل بيت النبي (صلى الله عليه وآله) من أبناء علي بن أبي طالب، وروى المؤرخون أن أبا العباس لما اُتي برأس مروان بن محمد -آخر الخلفاء الاُمويين- سجد فأطال، ثم رفع رأسه وقال: الحمد لله الذي لم يُبق ثأرنا قبل رهطك، الحمد لله الذي أظفرنا بك وأظهرنا عليك، ما اُبالي متى طرقني الموت وقد قتلتُ بالحسين (عليه السلام) ألفاً من بني اُمية، وأحرقت شلو هشام بابن عمي زيد بن علي... ثم قال: أما مروان، فقتلناه بأخي ابراهيم، وقتلنا سائر بني اُمية بحسين ومن قُتل معه وبعده من بني عمنا أبي طالب(4).
ولم يكتف العباسيون بالانتقام من الأحياء من بني اُمية، بل تعدّوهم الى الأموات أيضاً يشفون منهم غليلهم، حيث "أمر عبدالله بن علي بنبش قبور بني اُمية بدمشق، فنبش قبر معاوية بن أبي سفيان فلم يجدوا فيه إلاّ خيطاً مثل الهباء، ونبش قبر يزيد بن معاوية بن أبي سفيان فوجدوا فيه حطاماً كأنه الرماد، ونبش قبر عبدالملك فوجدوا جمجمته، وكان لا يوجد في القبر إلاّ العضو بعد العضو، غير هشام بن عبدالملك فإنه وجد صحيحاً لم يَبلَ منه إلاّ أرنبة أنفه، فضربه بالسياط وصلبه وحرّقه وذرّاه في الريح...(5).
هكذا كان موقف العباسيين من معاوية وبني اُمية في بداية عهد دولتهم، ولكن سرعان ما جدّت اُمور أدت الى أن يفكر العباسيون بتغيير موقفهم من معاوية خاصة بعد ذلك.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- الكامل 5: 380.
2- شرح نهج البلاغة 7: 155.
3- تاريخ بغداد 10: 280.
4- الكامل 5: 427، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 7: 131.
5- الكامل لابن الأثير 5: 430 حوادث سنة 132 هـ.
من كتاب الصحوة (رحلتي الي الثقلين) صباح علي البياتي