إن من الغرابة أن يتنكر بعض المؤلفين القدامى لكتاب المعتضد، مع أن المحدثين والحفاظ قد أخرجوا الكثير من تلك الأحاديث التي تنكر لها هؤلاء المؤلفون، وكثير منها طرقه لا مغمز فيها، فقصة مناصبة الاُمويّين ورأسهم أبو سفيان العداوة للنبي (صلى الله عليه وآله) هي من الاُمور التي لا يختلف فيها اثنان.
وأبو سفيان معروف منذ الجاهلية بأنه (كان من زنادقة قريش الثمانية)(1). وطائفة ترى أنه كان كهفاً للمنافقين منذ أسلم، وكان في الجاهلية ينسب الى الزندقة.
وفي خبر ابن الزبير أنه رآه يوم اليرموك، قال: فكانت الروم إذا ظهرت قال أبو سفيان: إيه بني الأصفر! فإذا كشفهم المسلمون قال أبو سفيان:
وبنو الاصفر الملوك ملوك الروم لم يبق منهم مذكور
فحدّث به ابن الزبير أباه لما فتح الله على المسلمين، فقال الزبير: قاتله الله، يأبى إلاّ نفاقاً! أو لسنا خيراً له من بني الاصفر؟(2).
ومن الجدير بالذكر هاهنا، أن الطبري قد روى عن سيف بن عمر في خبر معركة اليرموك، قال: "وكان أبو سفيان يسير فيقف على الكراديس فيقول: الله الله، إنكم ذادة العرب، وأنصار الإسلام، وإنهم ذادة الروم وأنصار الشرك، اللهم إن هذا يوم من أيامك، اللهم انزل نصرك على عبادك"!(3).
ولا عجب أن يتصدى زنديق الكوفة للمنافحة عن زنديق قريش.
وأورد ابن هشام شماتة أبي سفيان بالمسلمين في وقعة حنين. فقال نقلا عن ابن إسحاق:
فلما انهزم الناس، ورأى من كان مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) من جفاة أهل مكة الهزيمة، تكلم رجال بما في أنفسهم من الضّغن، فقال أبو سفيان بن حرب: لا تنتهي هزيمتهم دون البحر! وإن الأزلام لمعه في كنانته!(4).
وعندما بويع لأبي بكر، دخل أبو سفيان بن حرب على علي والعباس فقال: يا علي، وأنت يا عباس، ما بال هذا الأمر في أذل قبيلة من قريش، في تيم! أما والله لئن شئت لأملأنها عليه خيلا! فقال علي: يا أبا سفيان طالما غششت الإسلام!(5).
وعندما بويع لعثمان، دخل أبو سفيان عليه وقد عمي، فقال: ها هنا أحد؟ قالوا: لا، قال: اللهم اجعل الأمر جاهلية، والملك ملك غاصبية، واجعل أوتاد الأرض لبني اُمية!(6).
وفي رواية أنه قال: قد صارت إليك بعد تيم وعدي، فأدرها كالكرة، واجعل أوتادها بني اُمية، فإنما هو الملك، ولا أدري ما جنة ولا نار!
ومع ذلك، فقد أخرج الإمام مسلم في فضائل أبي سفيان، عن ابن عباس، قال: كان المسلمون لا ينظرون الى أبي سفيان ولا يقاعدونه، فقال للنبي (صلى الله عليه وآله): يا نبي الله، ثلاث أعطنيهن، قال: (نعم). قال: عندي أحسن العرب وأجمله: اُم حبيبة بنت أبي سفيان، أزوجك بها! قال: (نعم). قال: ومعاوية تجعله كاتباً بين يديك. قال: "نعم". قال: وتؤمرني حتى اُقاتل الكفار كما كنت اُقاتل المسلمين! قال: (نعم).
قال النووي في شرحه للحديث: واعلم أن هذا الحديث من الأحاديث المشهورة بالإشكال! ووجه الإشكال أن أبا سفيان إنما أسلم يوم فتح مكة سنة ثمان من الهجرة، وهذا مشهور لا خلاف فيه، وكان النبي (صلى الله عليه وآله) قد تزوج اُم حبيبة قبل ذلك بزمان طويل! قال أبو عبيدة وخليفة بن خياط وابن البرقي، والجمهور: تزوجها سنة ست، وقيل سنة سبع...
قال القاضي (عياض): والذي في مسلم هنا أنه زوجها أبو سفيان، غريب جداً! وخبرها مع أبي سفيان حين ورد المدينة في حال كفره مشهور، ولم يزد القاضي على هذا.
وقال ابن حزم: هذا الحديث وهم من بعض الرواة، لأنه لا خلاف بين الناس أن النبي (صلى الله عليه وآله) تزوج اُم حبيبة قبل الفتح بدهر وهي بأرض الحبشة، وأبوها كافر، وفي رواية عن ابن حزم أيضاً أنه قال: موضوع!! قال: والآفة فيه من عكرمة بن عمار الراوي، عن أبي زميل...(7).
أما القول بأن الحديث وهم من الرواة، فالأصح القول أنه من كذب الرواة الذين أرادوا أن يختلقوا هذه الفضائل لأبي سفيان تقرباً لمعاوية ورغبة فيما عنده من الدنيا وقد فطن ابن حزم لذلك، فالحقيقة أن الحديث لا يزيد عن قول ابن عباس بأن المسلمين كانوا لا ينظرون الى أبي سفيان ولا يقاعدونه، وهذا مطعن عليه وعلى بني اُمية، فزاد الرواة باقي الكلام ظناً منهم أنهم بذلك يتقربون لمعاوية وبني اُمية الذين كانوا يجزلون العطاء للكذابين من مختلقي الفضائل، وليس أدل على ذلك من الادعاء بأن أبا سفيان قد طلب من النبي (صلى الله عليه وآله) تأميره لقتال المشركين، وموافقة النبي على ذلك! فالنبي (صلى الله عليه وآله) لم يؤمر أبا سفيان على أي جيش، وموقفه في اليرموك وحنين يكفي للدلالة على نواياه تجاه الإسلام.
فكل ما في الأمر أن ابن عباس أراد أن يكشف عن موقف المسلمين من أبي سفيان الذي كان متهماً في دينه عندهم، وليس أدل على ذلك من الحديث الآخر الذي أخرجه مسلم في فضائل سلمان وصهيب وبلال، عن عائد بن عمرو، أن أبا سفيان أتى على سلمان وصهيب وبلال في نفر، فقالوا: والله ما أخذت سيوف الله من عنق عدو الله مأخذها! قال: فقال أبو بكر: أتقولون هذا لشيخ قريش وسيدها! فأتى النبي (صلى الله عليه وآله) فأخبره، فقال: "يا أبا بكر لعلك أغضبتهم! لئن كنت أغضبتهم لقد أغضبت ربك!" فأتاهم ابو بكر فقال: يا إخوتاه، أغضبتكم؟
قالوا: لا، يغفر الله لك يا أخي(8).
فالنبي (صلى الله عليه وآله) لم يعاتب الصحابة الذين عرّضوا بأبي سفيان، بل عاتب أبا بكر على أن يكون قد أغضبهم، ولو كانت لأبي سفيان كرامة عند النبي (صلى الله عليه وآله)، لظهر في موقفه من اُولئك الصحابة، ولكن موقف النبي قد كشف عن دناءة قدر أبي سفيان عنده!
________________________________
1- المحبّر: 161.
2- الاستيعاب 4: 240، الكامل في التاريخ 2: 414، الاصابة 2: 172، تهذيب تاريخ ابن عساكر 5: 536، 6: 406.
3- تاريخ الطبري 3: 397.
4- سيرة ابن هشام 4: 86.
5- مختصر تاريخ دمشق 11: 65.
6- الاستيعاب 4: 240، النزاع والتخاصم للمقريزي: 20، تهذيب تاريخ ابن عساكر 6: 409، الأغاني 6: 355.
7- شرح صحيح مسلم للنووي 16: 279.
8- صحيح مسلم 4: 1947.
من كتاب الصحوة (رحلتي الي الثقلين) صباح علي البياتي