في الواقع أن كلمة مناقب لا تبدو متناسبة مع سيرة معاوية إطلاقاً، وليس هذا من تقوّلنا عليه، بل هو مما اتفق عليه كبار الأئمة والعلماء، ولكن البعض يأبى إلاّ أن يختلق لمعاوية بعض الفضائل بوضع الأحاديث المناسبة للمقام، إلاّ أن الأعجب أن ينبري بعض الأئمة الحفّاظ - ممن شق عليه ألاّ يجد لمعاوية فضيلة صحيحة- لتحويل مثالب معاوية الى مناقب وفضائل! كما يفعل ابن كثير والذهبي وابن حجر الهيثمي وغيرهم، وقد تشبث البعض بالرواية التي جاءت في البخاري عن أبي مليكة، قال: أوتر معاوية بعد العشاء بركعة، وعنده مولى لابن عباس، فأتى ابن عباس فقال: دعه فانه صحب رسول الله (صلى الله عليه وآله).
وفي رواية قال: إنه فقيه!(1).
قال ابن حجر العسقلاني في شرحه للحديث:
عبّر البخاري في هذه الترجمة بقوله ذكر، ولم يقل فضيلة ولا منقبة، لكون الفضيلة لا تؤخذ من حديث الباب، لأن ظاهر شهادة ابن عباس بالفقه والصحبة دالة على الفضل الكثير، وقد صنّف ابن أبي عاصم جزءاً في مناقبه، وكذلك أبو عمر غلام ثعلب، وأبو بكر النقّاش، وأورد ابن الجوزي في الموضوعات بعض الأحاديث التي ذكروها، ثم ساق عن اسحاق بن راهويه أنه قال: لم يصح في فضائل معاوية شيء فهذه النكتة في عدول البخاري عن التصريح بلفظ منقبة اعتماداً على قول شيخه، لكن بدقيق نظره استنبط ما يدفع به رؤوس الروافض. وقصة النسائي في ذلك مشهورة، وكأنه اعتمد أيضاً على قول شيخه إسحاق. وكذلك في قصة الحاكم.
وأخرج ابن الجوزي أيضاً عن طريق عبدالله بن أحمد بن حنبل، سألت أبي: ما تقول في علي ومعاوية؟ فأطرق ثم قال: إعلم أن علياً كان كثير الأعداء، ففتش أعداؤه له عيباً فلم يجدوا، فعمدوا إلى رجل قد حاربه، فأطروه كيداً منهم لعلي. فأشار بهذا الى ما اختلقوه لمعاوية من الفضائل مما لا أصل له.
وقد ورد في فضل معاوية أحاديث كثيرة، لكن ليس فيها ما يصح عن طريق الإسناد، وبذلك جزم اسحاق بن راهويه والنسائي وغيرهما(2).
أما الرواية الآنفة الذكر، والتي يتشبث بها أنصار معاوية ويعدونها منقبة لمعاوية، فهي في الحقيقة ليست منقبة ولا فضلا كما صرح به ابن حجر العسقلاني، إذ أن الصحبة وحدها لا تكفي فضلا، لأن العبرة بحسن العاقبة، وكم من الصحابة ارتدوا وماتوا مرتدين، وكما أخبر النبي (صلى الله عليه وآله) عن مآل الكثير من الصحابة في أحاديث الحوض التي أوردناها فيما سبق.
أما وصف ابن عباس لمعاوية بأنه فقيه، فلا شك أنه من باب التهكم عليه، لأن ابن عباس يعلم جيداً قصر باع معاوية في الفقه، لقلة فترة صحبته، وقد مرّ بنا فيما سبق كيف أن معاوية كان يعترض على بعض الصحابة بأنهم يروون أحاديث تتضمن أحكاماً فقهية خطيرة لم يسمع هو بها، كما أن ابن عباس كان يعرف جيداً ما أحدث معاوية من بدع يخالف بها شريعة الله وسنّة نبيه (صلى الله عليه وآله)، ولقد ذمّ ابن عباس معاوية ولعنه في أكثر من موضع لهذا السبب، كما مر بنا فيما سبق، ولكن البعض يحاولون اقناع أنفسهم بأن قول ابن عباس هو تزكية لمعاوية، ولكن الأمر ليس كذلك قطعاً بعدما تعرفنا على رأي ابن عباس في معاوية.
أما النسائي، فقد دفع حياته ثمناً للحقيقة، حينما أعلن في بلاد الشام أنه ليس لمعاوية فضيلة ولا منقبة.
روى الحافظ المزّي، عن أبي بكر محمد بن موسى بن يعقوب الهاشمي قوله: قيل له: ألا تُخرج فضائل معاوية؟ فقال: أي شيء اُخرج، "اللهم لا تشبع بطنه"!!
كما واُخرج عن الحاكم أبي عبدالله الحافظ: سمعت علي بن عمر يقول: كان أبو عبدالرحمان النسائي أفقه مشايخ مصر في عصره، وأعرفهم بالصحيح والسقيم من الآثار وأعلمهم بالرجال، فلما بلغ هذا المبلغ حسدوه فخرج الى الرملة، فسئل عن فضائل معاوية، فأمسك عنه، فضربوه في الجامع فقال: أخرجوني الى مكة، فأخرجوه الى مكة وهو عليل، وتوفي بها مقتولا شهيداً(3).
وقد ادعى الحافظ المزي أن الإمام النسائي استشهد بدمشق من جهة الخوارج!(4).
وأخرج الذهبي عن ابن منده عن حمزة العقبي المصري وغيره، أن النسائي خرج من مصر في آخر عمره الى دمشق، فسئل بها عن معاوية وما جاء من فضائله، فقال: ألا يرضى رأساً برأس حتى يفضل!
قال: فما زالوا يدفعون في خصييه حتى اُخرج من المسجد، ثم حُمل الى مكة فتوفي بها(5).
إن هذا يعطينا فكرة واضحة عن مدى تأثير الإعلام الاُموي في كثير من الناس، وبخاصة أهل الشام الذين اعتقدوا بصحة المناقب المفتعلة التي وضعها الكذابون من أكلة السحت لمعاوية، إلاّ أن الغريب أن تجد بعض المحدّثين يخرجون الكثير من هذه الفضائل ويروجونها في كتبهم رغم معرفتهم بأن أئمة الحديث -وعلى رأسهم إبن راهويه- قد حكموا بالإعدام على كل فضائل معاوية! والأعجب من ذلك أن يحاول بعض اُولئك الحفاظ أن يحولوا مثالب معاوية الى مناقب له، كما سوف يأتي فيما بعد!
______________________________
1- صحيح البخاري 5: 35، باب ذكر معاوية.
2- فتح الباري: 7 ـ 104.
3- تهذيب الكمال 1: 157 ترجمة النسائي.
4- المصدر السابق 1: 154.
5- تذكرة الحفاظ 2: 700.
من كتاب الصحوة (رحلتي الي الثقلين) صباح علي البياتي