قال : لكن جمع بعضهم بين الخبر المار عن عائشة الدال على تأخر بيعة علي عليه السلام الى موت فاطمة وبين الخبر الذى مر عن أبي سعيد من ان عليا والزبير بايعا من اول الامر بان عليا بايع اولا ثم انقطع عن أبي بكر لما وقع بينه وبين فاطمة ما وقع في مخلفة رسول الله صلى الله عليه وآله ثم بعد موتها بايعه مبايعة اخرى فتوهم من ذلك بعض من لا يعرف باطن الامر ان تخلفه إنما هو لعدم رضاه ببيعته فاطلق ذلك من اطلق ومن ثم اظهر على مبايعته لابي بكر ثانيا بعد موتها على المنبر لازالة هذه الشبهة انتهى .
اقول : سيفرق هذا الجمع ما سيذكره قبيل الفصل الخامس حيث قال : ان أبا بكر ارسل إليهم بعد ذلك يعنى الى علي والعباس والزبير والمقداد فجاؤا فقال للصحابة هذا علي ولا بيعة لي على عنقه وهو بالخيار في امره إلا فانكم بالخيار جميعا في بيعتكم اياى فإن رأيتم لها غيرى فانا اول من بايعه الخ وايضا لا وجه لتجديد البيعة الواقعة على رؤس الاشهاد لاجل انقطاع المبايع وعزلته في بيته لبعض الاغراض من غير اظهاره لمن بايعه ليخلعه وينكر عليه وإلا لوجب تجديد بيعة كل من سافر عن أبي بكر مثلا بعد البيعة الى مدة ثم رجع إليه وهل هذا إلا اضحوكة يتلهى بها الصبيان كما ان فساد تقييد ذلك التجديد بوقوعه على المنبر مما يكاد يبصره العميان .
قال : وحكى النووي باسانيد صحيحة عن سفيان الثوري ان من قال ان عليا كان احق بالولاية فقد خطأ أبا بكر وعمر والمهاجرين وما اراه يرفع له عمل الى السماء انتهى .
اقول : النووي عندنا احقر من نواة الحشف البالى والثوري عجل جسد له خوار عالى وتخطئة أبي بكر وعمر واتباعهما مما وافق فيه السماوات والأرض فلا يبالى بها الشيعة يوم العرض بل يرون ذلك من ارفع اعمال الفرض وقد سبق منا زيادة كلام يتعلق بما في هذه التخطئة فيما كتبناه على اوائل الفصل الثاني فتذكر .
قال : الفصل الثالث في النصوص السمعية الدالة على خلافته من القرآن والسنة . أما النصوص القرآنية فمنها قوله تعالى " يا ايها الذين آمنوا من يرتدد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه اذلة على المؤمنين اعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم " اخرج البيهقى عن الحسن البصري انه قال : هو والله أبو بكر لما ارتدت العرب جاهدهم هو واصحابه حتى ردهم الى الاسلام انتهى
اقول : ليس أحد ممن حاربهم أبو بكر باصحابه من أهل الردة كما ذكره ابن حزم في مسألة احكام المرتدين من كتابه الموسوم بالمجلى حيث قال ان المتسمين باهل الردة قسمان قسم لم يؤمن قط كاصحاب مسيلمة وسجاح فهؤلاء حربيون لم يسلموا قط لا يختلف أحد في انه يقبل توبتهم واسلامهم والثانى قوم اسلموا ولم يكفروا بعد اسلامهم لكن منعوا الزكوة من ان يدفعوها الى أبي بكر فعلى هذا قوتلوا ولم يختلف الحنفيون والشافعيون في ان هؤلاء ليس لهم حكم المرتد اصلا وهم قد خالفوا فعل أبي بكر فيهم ولا نسميهم أهل الردة ودليل ما قلناه شعر الحطيئة المشهور الذي يقول فيه : شعر
اطعنا رسول الله ما كان بيننا * فيالهفا ما بال دين أبي بكر
ايورثها بكر إذا مات بعده * فتلك لعمر الله قاصمة الظهر
واين التي طالبتم فمنعتم * لك التمر أو احلى لدى من التمر
فياليتني دودان رحلى وناقتي * عشية نجد بالرماح أبو بكر
بل قد ذكر صاحب الفتوح عند ذكر بني حنيف وبني كندة ان منشأ مخالفة طوائف العرب الذين منعوا أبا بكر في ايام خلافته من الزكوة حتى سماهم باهل الردة وقاتلهم عليه إنما كان اعتقادهم حقية خلافة أهل البيت عليهم السلام وقد جهم في خلافة أبي بكر فقد روى بعض المتقدمين انه لما بويع لابي بكر دخل مالك بن نويرة سيد بنى حنيف رضى الله عنه المدينة لينظر من قام بالامر بعد النبي صلى الله عليه وآله وكان يوم الجمعة فلما دخل المسجد وصعد أبو بكر ليخطب على منبر رسول الله صلى الله عليه وآله فلما نظر إليه قال هذا اخو تيم ؟ قالوا نعم قال فما فعل وصى رسول الله صلى الله عليه وآله الذي امرني رسول الله صلى الله عليه وآله باتباعه وموالاته فقال له المغيرة بن شعبة انك غبت وشهدنا والامر يحدث بعد الامر فقال مالك بالله ما حدث شئ ولكنكم خنتم الله في رسوله ثم تقدم الى أبي بكر وقال يا أبا بكر لم رقيت منبر رسول الله صلى الله عليه وآله ووصى رسول الله جالس فقال أبو بكر اخرجوا الاعرابي البوال على عقبيه من المسجد فقام إليه عمر وخالد وقنفذ فلم يزالوا يلكزونه في ظهره حتى اخرجوه من المسجد كرها بعد اهانة وضرب فركب مالك راحلته وهو يقول : شعر
اطعنا رسول الله ما كان بيننا * فيا قوم ما شأني وشأن أبي بكر
إذا مات بكر قام بكر مقامه * فتلك وبيت الله قاصمة الظهر
فلو قام بالامر الوصي عليهم * اقمنا ولو كان القيام على الجمر
قال الراوى فلما توطأ الامر لابي بكر بعث خالد بن الوليد في جيش وقال علمت ما قال ابن نويرة في المسجد على رؤس الاشهاد وما انشده من شعره ولسنا نأمن من ان ينفتق علينا منه فتق لا يلتام والرأى ان تخدعه وتقتله وتقتل كل من يبارزك دونه وتسبى حريمهم اتهاما لهم بانهم قد ارتدوا ومنعوا الزكوة فسار خالد وجرى من فعله ما اشتهر من الغلبة والغدر ، الذي يضيق باستماعه الصدر على أنه روى عن الباقر عليه السلام وابن عباس و عمار رضى الله عنهما أن هذه الاية قد وردت في شأن الناكثين من اصحاب الجمل الذين جاهدهم علي عليه السلام بل الظاهر ان المراد من الاية ما هو أعم من ذلك بأن يكون خطابا لكافة المؤمنين في حياة الرسول صلى الله عليه وآله واعلاما منه تعالى ان منهم من يرتد بعد وفاته بالتساهل على وصيته وانكارهم للنص عليه وذلك هو ما يقوله جمهور اصحابنا من ان دافعي النص كفرة والارتداد هو قطع الاسلام بما يوجب الكفر فيكون ذلك شاملا لاصحاب الجمل وغيرهم وهو قول علي عليه السلام يوم الجمل ( ما قوتل أهل هذه الاية حتى اليوم ) ذلك حق وصدق فإن منكري امامته من المتقدمين لم يقع بينه وبينهم قتال بل اول قتال وقع له بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وآله هو حرب الجمل ولذلك قال ما قال ومهما امكن حمل الكلام على عمومه كان اولى ويدل على ان الارتداد بانكار النص والقيام على مخالفة امير المؤمنين عليه السلام ذكر اوصافه عليه السلام في متن الاية بقوله ( يحبهم ويحبونه ) فهو كقوله صلى الله عليه وآله له يوم الخيبر ( لاعطين الراية غدا رجلا يحب الله ورسوله ويحبه ورسوله كرارا غير فرار )
فإن الوصف بمحبته لله ومحبة الله له وصف مجمع عليه في علي عليه السلام مختلف فيه في أبي بكر ثم قال تعالى ( اذلة على المؤمنين اعزة على الكافرين ) ومعلوم بلا خلاف حالة امير المؤمنين عليه السلام في التخاشع والتواضع عند غضبه وايذائه ما رأى قط طائشا ولا مستطيرا في حال من الاحوال ومعلوم حال أبي بكر و عمر في هذا الباب أما الاول فلانه اعترف طوعا بان له شيطانا يعتريه عند غضبه وأما الثاني فكان معروفا بالحدة والعجلة مشهورا بالفظاظة والغلظة وأما النصرة على الكفار فانما تكون بقتالهم وجهادهم والانتصاف منهم وهذه حال لم يسبق أمير المؤمنين عليه السلام إليها سابق ولا لحقه فيها لاحق ثم قال تعالى (يجاهدون في سبيل الله ) وهذا وصف أمير المؤمنين عليه السلام مستحق له بالاجماع وهو منتف عن أبي بكر وصاحبه بالاجماع لانه لا قتيل لهما في الاسلام ولا جهاد بين يدى الرسول صلى الله عليه وآله وكذا قوله تعالى ( ولا يخافون لومة لائم ) فإن الخوف من لومة اللائم إنما كان يتوهم في قتال الناكثين والقاسطين والمارقين الذين كان اكثرهم من اصحاب سيد الانام ومتظاهرين بالاسلام وأما قتال من زعموا انه ارتد من العرب في زمان أبي بكر فلم يكن فيه توهم لوم اللائم حتى يوصف فاعله بعدم خوفه من ذلك وبهذا التفسير والتقرير سقط استدلاله بالاية على خلافة أبي بكر وهو ظاهر جدا ويزيده سقوطا ان فخر الدين الرازي قال عند تفسير هذه الاية " ان هذه الاية من ادل الدلائل على فساد مذهب الامامية لأن الذين اتفقوا على امامة أبي بكر لو كانوا انكروا نصا جليا على امامة علي عليه السلام لكان كلهم مرتدين ولجاء الله بقوم يحاربهم ويردهم الى الحق ولما لم يكن الامر كذلك بل الامر بالضد فإن الشيعة مقهورون ابدا حصل الجزم بعدم النص ( واجاب عنه العلامة النيشابوري الشافعي في تفسيره بقوله ) ولناصر مذهب الشيعة ان يقول ما يدريك انه تعالى لا يجئ بقوم يحاربهم ولعل المراد بخروج المهدى هو ذلك فإن محاربة من دان بدين الاوائل هي محاربة الاوائل ( ثم قال خوفا وتقية ) ان هذا الجواب انما ذكرته بطريق المنع لا لاجل العصبية والميل فإن اعتقاد ارتداد الصحابة الكرام أمر فظيع انتهى وفي عذره هذا ايضا اشارات لا تخفى على اولى النهى .
واذ عرفت مما ذكرناه وما لم نذكره من القرائن والاثار في شأن القوم الذين وصفهم الله تعالى بالصفة التي اشتق منها اسم نبيه فدعاه بنبيه فقد اطلعت على حقيقة النسبة التي بين النبي والولى وظهر لك ان انكار الامامة كانكار النبوة وانكار النبوة كانكار الوهية الله تعالى فعلم ان معرفة الامام والاعتراف بحقه شرط الايمان رغما لانف من يتأنف عن ذلك ولولا ذلك لم يحكم الله سبحانه وتعالى على منكر بالارتداد إذ محصل معنى الاية وعيد لمن انكرها وارتد بذلك عن دين الاسلام قوم يعرفون صاحبها ويعترفون بحقه يحبهم الله ويحبونه لمحبتهم اياه والقيام بمودته والبرائة من اعدائه اللهم اجعلنا من زمرة الذين انعمت عليهم بمحبة احبائك والبرائة عن اعدائك انك على شئ قدير وبالاجابة والتفضل حقيق جدير وأما الرواية في ذلك عن الحسن البصري فقد مر انه ضعيف فلا يفيد برهانه القسمى ونحن نعارضه باضعاف ذلك القسم على خلافه فليضحك قليلا وليبك كثيرا .
قال : قال النووي في تهذيبه واستدل اصحابنا على عظيم علم الصديق بقوله في الحديث الثابت في الصحيحين (والله لاقاتلن من فرق بين الصلوة والزكوة والله لو منعوني عقالا كانوا يؤدونه الى رسول الله صلى الله عليه وآله لقاتلتهم على منعه) واستدل الشيخ أبو اسحق بهذا وغيره في طبقاته على ان ابا بكر اعلم الصحابة لانهم كلهم وقفوا عن فهم الحكم في المسألة إلا هو ثم ظهر لهم بمباحثته لهم ان قوله هو الصواب فرجعوا إليه انتهى .
اقول : قد بينا سابقا نقلا عن ابن حزم ان من منع أبا بكر عن اداء الزكوة إليه لم يكونوا مرتدين حقيقة اتفاقا وانهم لم يمنعوا الزكوة مستحلين في الدين بل منعوه عن ابى بكر لاعتقادهم عدم استحقاقه للخلافة كما مر فحكمه بقتالهم يكون جهلا لا علما و بالجملة ان اراد بذلك العلم العلم الذى كان يستدعيه انتظام خلافته وحصول مصلحته بالانتقام منهم فهو مسلم لكن لا يجدى نفعا وان اراد العلم المطابق لحكم الله تعالى ورسوله فهو ممنوع كيف وقد روى صاحب الفتوح ما سيعترف به هذا الشيخ الجامد عند تقرير الشبهة الخامسة من ان عمر انكر على ذلك وخاطب خالد بن الوليد الذي ارتكب ذلك بقوله (يا عدو الله) واراد ان يقتص منه بقتله لمالك بن نويرة سيد بني حنيف فنصحه أبو بكر و قال له لا تلم خالدا فانه سيف الله وإنما فعل ما فعل بأمرى وكان المصلحة فيه فلم يتكلم عمر في ذلك مدة خلافة أبي بكر حتى وصلت الخلافة إليه فهرب عنه خالد الى الشام وجمع عمر من بقى من قوم مالك واخذ ما كان من نسائهم وذراريهم عند المسلمين وسلمهم إليهم فإن كان حكم أبي بكر علما كان منع عمر جهلا وان كان بالعكس فالعكس فليختر اوليائهما من هذين ما شاؤوا ويدل على ما ذكرناه من انهم لم يجحدوا اصل الزكوة لانه لا يعقل من مالك واصحابه ذلك مع القيام على الصلوة فانهما جميعا في قرن واحد لأن العلم الضرورى حاصل للكل بانهما من دينه عليه السلام وشريعته على حد واحد وهل نسبة مالك الى الردة مع ما ذكرناه الاقدح في الاصول ونقض في الدين من ان الزكوة معلومة ضرورة من دينه عليه السلام وقد روى جميع أهل النقل ان أبي بكر وصى الجيش الذين انفذهم بان يؤذنوا ويقيموا فإن اذن القوم باذانهم واقاموا كفوا عنهم فإن لم يفعلوا اعادوا عليهم فجعل امارة الاسلام والبرائة من الردة الاذان والاقامة وقصة مالك معروفة عند من تأملها من النقل لانه كان على صدقات قومه واليا من قبل رسول الله صلى الله عليه وآله فلما بلغته وفاة النبي صلى الله عليه وآله امسك عن اخذ الصدقات من قومه وقال لهم تر بصوابها حتى يقوم قائم بعد النبي صلى الله عليه وآله وننظر ما يكون من أمر وقد صرح بذلك في بعض اشعاره المشهورة المذكورة في كتاب الكافي وغيره وروى بعضهم انه اخذ الصدقات وفرقها على فقراء قومه والله اعلم واذ قد علم بما قررناه ان ما ذكره هذا الشيخ الجامد من تصويب جميع الصحابة بقتالهم كذب صريح ارتكبه ترويجا لحال أبي بكر وسدا لباب الطعن القديم المشهور في ذلك عليه ومن اين يثبت العلم لمن لم يعلم من القرآن الذي عرضوه على رسول الله صلى الله عليه وآله مرارا معنى الاب والكلالة وغيرهما مما فصل في كتب الجمهور هذا وسيجئ منافى ذكر هذا الرجل للشبهة الثانية من شبه الشيعة ما يزيد المطلوب وضوحا فلا تغفل .
المصدر: الكتاب الصوارم المهرقة في الجواب الصواعق المحرقة