كان الإمام الجواد (ع) في السادسة من عمره حينما خرج والده الرضا (ع) من المدينة إلى خراسان، وبعد اغتيال الإمام الرضا (ع) انتقل المأمون إلى بغداد واستدعى الإمام الجواد إليه، في محاولة احتوائه والحد من نشاطه في المدينة التي كان يرقى إلى منبرها ويخاطب الناس بقوله: (ولولا تظاهر أهل الباطل، ودولة أهل الضلال ووثوب أهل الجهل لقلتُ قولاً تعجّب منه الأولون والاخرون!! يضع يده الشريفة على فمه ويقول: "يا محمد أصمت كما صمت اباؤك من قبل).
وفي بغداد تظاهر المأمون بإكرام الإمام وبرّه فأنزله بالقرب من داره وأسكنه في قصره وعزم على تزويجه من ابنته أم الفضل. ليدفع عنه التهمة بتصفية الرضا (ع) التي زعزعت من ولاء أهل خرسان له. وعرّضته لانتفاضاتهم التي كانت تظهر بين حين واخر، وليتركه قريباً منه وتحت المراقبة الأمنية خوفاً وحذراً من تحريك العلويين ضده.
ولكن تزويجه من ابنته أم الفضل أثار مخاوف العباسيين من أن ينتهي الأمر معه إلى ما انتهى إليه مع أبيه الرضا من ولاية العهد، فاجتمع أقطابهم إلى المأمون قائلين له: "إن هذا الفتى صبي لا معرفة له ولا فقه، فأمهله حتى يتأدب ويتفقّه في الدين.." في محاولة منهم لمنع حصول هذا الأمر إذ كان ؤرقهم دائماً فكرة انتقال الخلافة إلى منافسيهم العلويين. فأجابهم المأمون: "ويحكم إني أعرف بهذا الفتى منكم! وإن أهل هذا البيت علمهم ومواهبهم من الله تعالى ومن إلهامه، وإن شئتم فامتحنوه" فأجمعوا أمرهم على إحضار قاضي القضاة يحيى بن أكثم ليمتحن الإمام (ع). واختيارهم لقاضي لقضاة وهو أعلى منصب ديني في الدولة انذاك يدل على مدى خوفهم من الإمام واعترافهم بعظمته رغم صغر سنه. وفي مجلس حاشد واجه القاضي يحيى الإمام (ع) بالمسألة التالية: ما تقول في محرم قتل صيداً؟ وبكل بساطة واطمئنان أجاب الإمام (ع): قتله في حِلٍ أو حرم؟ عالماً كان المحرم أو اهلاً؟ قتله عمداً أو خطأ؟ حراً كان المحرم أو عبداً؟ صغيراً كان أو كبيراً؟ مبتدئاً بالقتل أو معيداً؟ من ذوات الطير كان الصيد أم غيرها؟ من صغار الصيد أم من كبارها؟ مصراً على ما فعل أم نادماً؟ ليلاً كان قتله للصيد أم نهاراً؟ محرماً كان بالعمرة إذ قتله أو بالحج كان محرماً؟ واشرأبت الأعناق إلى القاضي حيى الذي كان أعجز من أن يتابع مسألة الإمام (ع) فبان عليه الارتباك وظهر فشله وعجزه، فقال المأمون لهم: أعرفتم ما كنتم تجهلون؟ وتوّج المأمون انتصاره بعقد قران ابنته من الإمام (ع) في نفس المجلس.
الإمام (ع) في المدينة:
لم تخفَ على الإمام (ع) أهداف المأمون التي كانت تخضع للحسابات الانية الضيقة والمصلحة الشخصية. بينما جاءت تصرفات الإمام مبنية على أساس المصلحة الإسلامية العامة ومنسجمة مع الحسابات الواسعة التي تخدم الإسلام عل المدى البعيد. واستطاع الإمام بذلك أن يحقق أهدافه من خلال:
1- إبقاء الشرخ الكبير بين المأمون والأسرة العباسية بتزوّجه من أم الفضل.
2- تدعيم قضية الإمامة وإظهار أحقيتها، في مواجهة التشكيك بها نتيجة صغر سنه، وتمّ ذلك عبر مواجهة قاضي القضاة أعلى منصب ديني في الدولة وإفحامه، وغيرها من المحاججات.
3- إيجاد أكبر قدر من الحرية على مستوى تحركات الإمام واتصاله بقواعده الشعبية وتخفيف وطأة الضغط عليهم.
وبالفعل إنتقل الإمام (ع) إلى المدينة رغم تحفظات المأمون ليمارس مهامه في التوعية والتثقيف والإرشاد في أجواء ملائمة لم يكن خلالها في ضيق من أمره ولا مراقباً من أحد. فكان أصحابه يتصلون به مباشرة وتصل إليهم الأحكام الشرعية والحقوق. كما كان يدرّس ويحاور ويبين للناس ما اشتبه ليهم من أمر دينهم ودنياهم حتى تحوّل بيته إلى مدرسة يؤمها العلماء والفقهاء من مختلف أقطار العالم الإسلامي، وتخرّج منها العديد من أصحاب الفضل في حفظ الأحاديث والأحكام ونقلها لأتباعهم.
شهادت الامام (ع):
استمر الإمام الجواد (ع) في مسيرته الإصلاحية حتى وفاة المأمون. وخلفه المعتصم الذي كان يمثّل قمّة الإنحراف على رأس السلطة. ولم ترق له نشاطات الإمام الإصلاحية فاستدعاه إلى بغداد ووضعه تحت الإقامة الجبرية مدة من الزمن بهدف الحد من نشاطه، ولكنه بات يشكل خطراً عليه نتيجة التفاف الناس حوله وتأثرهم به، فأوعز إلى زوجته أم الفضل فدسّت له السم في الطعام فقضى الإمام شهيداً.
المصدر: http://baitoela7zan.com/ahlb/serah.php?cat=12