من الناحية النفسية يمكن القول بان عرب الجاهلية كانوا النموذج الكامل للإنسان الحريص ، الموصوف بالطمَع الشديد ، القويّ التعلق بالماديات.
لقد كانوا ينظرون الى كل شيء من زاوية منافعه ومردوداته المادية ، كما أنهم كانوا دائماً يرون لأنفسهم فضيلة وميزة على الآخرين.
كانوا يحبّون الحرية حباً شديداً ، ولذلك كانوا يكرهون كل شيء يقيّد حريتهم.
يقول ابن خلدون عنهم : « إنهم ( اي العرب الجاهلية ) بطبيعة التوحُّش الّذي فيهم اهلُ انتهاب وعيث ، ينتهبون ما قدروا عليه ... وكان ذلك عندهم ملذوذاً لما فيه من الخروج عن ربقة الحكم ، وعدم الإنقياد للسياسة وهذه الطبيعة منافيةٌ للعمران ومناقضة له ».
ويضيف قائلا : « فطبيعتهم انتهاب ما في أيدي الناس ، وان رزقهم في ضلال رماحهم وليس عندهم في أخذ اموال الناس حدُّ ينتهون إليه بل كلما امتدت أعينهم إلى مال أو مَتاع أو ماعون انتهبوه » (2).
لقد كانت الاغارة وكان النهب والقتال من العادات المستحكمة عند القوم ، ومن الطبائع الثانوية في نفوسهم ، وقد بلغ ولعهم وشغفهم بكل ذلك ونزوعهم الشديد إليه أن أحدهم ـ كما يقال ـ سأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد أن سمع منه وصف الجنة وما فيها من نعيم : وهل فيها قتال ؟
ولما سمع الجواب بالنفي قال : اذن لا خير فيها !!
اجل لقد سجل التاريخ للعرب ما يقرب من ( 1700 ) وقعة وحرباً ، امتد أمدُ بعضها إلى مائة سنة أو اكثر ، يعني أن أجيالا كثيرة كانت تتوارث الحرب ، وتستمر في قتال الخصم ، وربَّ حرب دامية طويلةُ الأمد إندَلعت بسبب قضيَة تافهة (2).
لقد كان العربي في العهد الجاهلي يعتقد بأنَ الدم لا يغسلهُ الا الدم ، وقضية « الشنفري » الّتي هي اشبه بالأساطير لغرابتها يمكن أن تعكس مدى « العصبية الجاهلية » الّتي كانت سائدة آنذاك.
فالشنفري يُهانُ على يد رجل من « بني سلامان » فيعزم على الانتقام منه ، وذلك بأن يقتل مائة من تلك القبيلة ، وبعد التربُّص الطويل يغتال تسعاً وتسعين ، ويبقى مشرَّداً حتّى تغتالُه جماعة من اللصوص عند بئر فتفعل جمجمته ـ بعد مقتله ـ فعلتها ، اذْ تتسبَّبُ بعد مرور سنين ـ في قتل رجل من قبيلة ـ « بني سلامان » وبذلك يكتمل العدد الّذي حلف على قتلهم من تلك القبيلة ، وذلك عندما يمر رجل من « بني سلامان » على تلك المنطقة فيهب طوفان شديد يلقي بجمجمة « شنفرة » على ذلك الرجل فتصيبُه في رجله بشدة ، فيموتُ بما لحقه من ألم وجراحة (3).
ولقد بلغ اُنس العرب الجاهلية بالقتال وسفك الدماء أن جعلوا القتل والسفك للدماء من مفاخر الرجال !!
ويبدو ذلك جلياً لمن يقرأ قصائدهم الملحمية الّتي تفوح منها رائحة الدم ، ويخيّم عليها شبح الموت ، تلك القُصائد الّتي يمدح فيها الشاعر نفسه أو قبيلته بما أراقوه من دماء !! ، وما ازهقوه من ارواح وما سبوه من نساء !! ، وأيتموه من أطفال !!
ونجد في البيت الشعريّ التالي مدى انزعاج الشاعر العربيّ الجاهلي لما اصابَ قبيلته مِن نكسة وذل وهزيمة في ميدان القتال ، إذ يقول :
فَلَيْتَ لي بِهمُو قَوماً إذا ركَبُوا شَنُّوا الإغارَة رُكباناً وفُرسانا
ويصف القرآن الكريم هذه الحالة بقوله : « وَكُنْتم عَلى شَفا حُفْرة مِنَ النّار فَأَنْقَذَكُمْ مِنها » (4).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
2 ـ مقدّمة ابن خلدون : ص 149.
2 ـ العرب قبل الإسلام : ص 319 و 320 ، هذا وتعتبر حرب داحس والغبراء ، من أيام العرب التاريخية قبل الإسلام ، وقد نشأت بسبب سباق بين فرسين هما داحس والغبراء ( وهو فرسين لقيس بن زهير من بني عبس ) وفرسين آخرين ( لحذيفة الغدر ) انتهى إلى التنازع في السباق وازداد التنافر بين المتسابقين وانجرّ إلى طعن أحدهما الآخر ، وأن تتهيأ على اثر ذلك مقدماتُ حرب طويلة بين قبيلتي الرجلين وحلفائهما استمرت من عام 568 م إلى عام 608 م وموت كثيرين.
( راجع تاريخ العرب وآدابهم ص 47 و الكامل لابن الأثير : ج 1 ، ص 204 ).
3 ـ تاريخ العرب : ج 1 ، ص 111 ، وراجع أيضاً بلوغ الارب في معرفة أحوال العرب : ج 2 ، ص 145 و 146.
4 ـ آل عمران : 103.
سيد المرسلين ( صلى الله عليه وآله وسلم ) الاستاذ المحقّق الشيخ جعفر السبحاني