عند ما رفع « إبراهيم الخليل » لواء التوحيد في البيئة الحجازية ، واعاد بناء الكعبة المعظمة ورفع قواعدها بمعونة ابنه « اسماعيل » ، تبعه في ذلك طائفة من الناس ممن أنار اللّه به قلوبهم ، الاّ انه من غير المعلوم إلى ايّ مدى استطاع ذلك النبي العظيم أن يعمّم دين التوحيد ويبسط لواءه على الجميع ، ويؤلف صفوفاً متراصة ، وجبهة عريضة قوية من الموحدين ، غير ان من المعلوم انه اصبحت تلك المنطقة مسرحاً للوثنية ولعبادة الاشياء المختلفة مع الايام فقد كانت الطبقة المثقفة من العرب تعبد الكواكب والقمر ، فهذا هو المؤرخ العربي الشهير الكلبي الّذي توفى عام 206 هجرية يكتب في هذا الصدد قائلا كان « بنومليح » من خزاعة يعبدون الجن وكانت « حمير » تعبد الشمس ، و « كنانة » تعبد القمر ، و « تميم » الدبران ، و « لخم » و « جذام » المشتري ، و « طي » سُهيلا ، و « قيس » الشِعرى ، و « أسد » عطارداً.
أما الدهماء والذين كانوا يشكلون اغلبية سكان الجزيرة فقد كانوا يعبدون ـ مضافاً إلى الصنم الخاص بالقبيلة أو العائلة ـ ثلاثمائة وستين صنماً ، وكانوا ينسبون أحداث كل يوم من أيام السنة إلى واحد منها.
وقد دخَلَتْ عبادةُ الأصنام والأوثان في مكة بعد « إبراهيم الخليل » عليه السلام على يد « عمرو بن لحي » ، ولكنها لم تكن في بداية أمرها بتلك الصورة الّتي وصلت إليها في ما بعد فقد كانوا يعتبرونها في بداية الامر شفعاء إلى اللّه ووسطاء بينه وبينهم ، ولكنهم تجاوزوا هذا الحد في ما بعد حتّى صاروا يعتقدون شيئاً فشيئاً بانها اصحاب قدرة ذاتية مستقلة ، وأنها بالتالي آلهة وأرباب.
وكانت الاصنام المنصوبة حول الكعبة تحظى باحترام جميع الطوائف العربية ، ولكن الاصنام الخاصة بالقبائل فقد كانت موضع احترام جماعة خاصة فقط ، ولأجل أن تبقى حرمة هذه الأصنام والأوثان الخاصة محفوظة لا يمسها أحد بسوء كانوا ينشؤون لها أماكن وبيوت خاصة ، وكانت سدانة هذه البيوت والمعابد تنتقل من جيل إلى آخر بالوراثة.
أما الآصنام العائلية فقد كانت العوائل تقتنيها للعبادة كل يوم وليلة ، فاذا أراد احدهم السفر كان اخر ما يصنعه في منزله هو ان يتمسح به أيضاً.
وكان الرجل إذا سافر فنزل منزلا أخذ أربعة أحجار فنظر إلى أحسنها ، واتخذهُ رَبّاً وجعَلَ ثلاثة أثافيّ لقدْره ، وإذا ارتحل تركه.
وكان من شَغَفَ أهلِ مكة وَحُبّهم للكعبة والحرم أنه كان لا يسافر منهم أحدٌ إلا حَمَل معه حجراً من حجارة الحرم تعظيماً للحرم ، وحباً له فحيثما حلّوا نصبوه وطافوا به كطوافهم بالكعبة صبابة بها ، ويمكن أن تكون هذه هي « الأنصاب » الّتي فُسرت بالاحجار العادية غير المنحوتة وتقابلها الأوثان ، وهي الاحجار المنحوتة على هيئة خاصة ، وأما « الأصنام » فهي المعمولة من خَشَب أو ذهب أوفضة على صورة انسان.
لقد بلغ خضوعُ العرب أمام الاصنام والأوثان حداً عجيباً جداً ، فقد كانوا يعتقدون بأنهم يستطيعون كسبَ رضاها بتقديم القرابين اليها ، وكانوا بعد نحر الهدايا يلطخون وجوه الاصنام ورؤوسها بدماء تلك الهدايا ، وكانوا يستشيرونها في مهام امورهم ، وجلائل شؤونهم ، فاذا ارادوا الوقوف على مستقبل الأمر الّذي تصدّوْا له ومعرفة عاقبته أخيرٌ هو أم شرٌ استقسمَ لهم أمين القداح بقدحي ( الأمر والنهي ) وهيَ قطع كُتِبَ على بَعضها ( إفْعَلْ ) وعلى بعضها الآخر ( لا تَفْعَلْ ) فيمدُّ أمين القداح يده ويجيل القداح ويخرج واحداً فانْ طَلَع الآمر فعل أو الناهي ترك.
وخلاصة القول ، ان الوثنيّة كانت العقيدة الرائجة في الجزيرة العربية ، وقد تفشَّتْ فيهم في مظاهرَ متنوعة ومتعددة ، وكانت الكعبة المعظمة ـ في الحقيقة ـ محطَّ أصنام العرب الجاهلية وآلهتهم المنحوتة ، فقد كان لكل قبيلة في هذا البيت صنم ، وبلغ عدد الاصنام الموضوعة في ذلك المكان المقدس ( 360 ) صنماً في مختلف الاشكال والهيئات والصور ، بل كان النصارى أيضاً قد نقشوا على جدران البيت وأعمدته صوراً لمريم والمسيح والملائكة ، وقصّة ابراهيم.
وكان من جملة تلك الأصنام : « اللات » و « العُزّى » و « مناة » الّتي كانت تعتبرها قريش بنات اللّه ويختص عبادتها بقريش.
وكانت « اللات » تعتبر اُمُّ الالهة ، وكان موضعها بالقرب من « الطائف » وكانت من الحجر الابيض ، و أما « مناة » فكانت في عقيدتهم إلاهة المصير وربَّة الموت والاجل وكان موضعها بين « مكة » و « المدينة ».
ولقد اصطحب « ابوسفيان » معه يوم « اُحد » : « اللات » و « العزّى ».
ويروى انه مرض ذات يوم « أبو أُحيحة » وهو رجل من بني اُمية ، مرضه الّذي مات فيه ، فدخل عليه ابولهب يعوده ، فوجده يبكي ، فقال : ما يبكيك يا با احيحة ؟ أمن الموت تبكي ولابد منه ؟ قال : لا ولكني اخاف ان لا تُعبَد العزى بعدي ! قال ابولهب : واللّه ما عُبدَت حياتك ( اي لا جلك ) ولا تُترك عبادتُها بعدك لموتك !! فقال أبو اُحيحة : الآن علمتُ ان لي خليفة (1)
ولم تكن هذه هي كل الأَصنام الّتي كانت تعظِّمها وتعبُدُها العربُ بل كانت لقريش اصنامٌ في جوف الكعبة وحولها وكان اعظمها « هُبَل » ، كما انه لم يكن لكل قبيلة صنم خاص فحسب بل كانت كل عائلة تعبد صنماً خاصاً بها مضافاً إلى صنم القبيلة وكانت المعبودات تتراوح بين الكواكب ، والشمس ، والقمر ، والحجر ، والخشب ، والتراب ، والتمر ، والتماثيل المنحوتة المختلفة في الشكل ، والهيكل ، والاسم ، المنصوبة في الكعبة أو في سائر المعابد.
لقد كانت الاصنام جميعها أو أغلبها معظَّمة عند العرب ، يتقربون عندها بالذبائح ويقرّبون لها القرابين ، وجرت عادة بعض القبائل انذاك أن تختار من بين أفرادها كل سنة شخصاً في مراسيم خاصة ثم تذبحه عند أقدام اصنامها ، وتقبر جسده على مقربة من المذبح.
أَرَبّا واحِداً أمْ ألف رَب أدينُ إذا تقسَّمَتِ الاُمورُ
عَزلتُ اللاتَ والعزى جميعاً كذلك يَفعَلُ الجَلِدُ الصَبُور
فلا عُزّى أدين ولا ابنتيها ولا صَنَميْ بني عمرو أزُورُ
ولا غنماً أزورُ وكان ربّاً لنا في الدهر إذ حلمي يسيرُ
ولكن أعبدُ الرحمان رَبِّي لِيَغْفِرَ ذَنبِي الربُّ الغفُورُ (1)
وقد حدثت بسبب الاختلاف والتعددية في عبادة الاصنام والاوثان المؤلَّهة السخيفة الباطلة ، تناقضاتٌ ، وصراعاتٌ ، وحروب ومناحرات ، قد جرّت بالتالي ويلات ومآس وخسائر مادية ومعنوية كبرى على تلك الجماعة المتوحشة ، الضالة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ بلوغ الارب في معرفة أحوال العرب : ج 2 ، ص 249 و جاء البصير.
سيد المرسلين ( صلى الله عليه وآله وسلم ) الاستاذ المحقّق الشيخ جعفر السبحاني