إن الباب العاشر من هذا الديوان خير وسيلة لمعرفة ما كانت عليه المرأة في العصر الجاهلي من الحرمان ، وأقوى دليل على أنها كانت تعيشُ ـ في ظل ذلك العهد ـ في أسوأ الحالات وأشد الظروف واتعسها.
هذا مضافاً إلى أن الآيات القرآنية الّتي تنزلت وهي تشجبُ بعنف معاملة الجاهلين للعنصر النسائي ، وقسوتهم على الاُنثى ، هي الاُخرى افضل شاهد على مدى الانحطاط الاخلاقي والتدهور السلوكي الّذي انحدروا إليه في هذا المجال.
إن القرآن الكريم يصف عادة وأد البنات بقوله : « وإذا الموؤدة سُئلت » (1) أي ليسئل يوم القيامة عن البنات اللاتي وُئدن وهنّ أحياء.
إن القرآن الكريم بهذه العبارة الموحية إنما يتحدث ـ في الحقيقة ـ عن عادة وأدالبنات بمرارة ، ويشجبها بشدة حتّى أنه يعتبرها جريمة نكراء لا تمر ـ في الآخرة ـ بدون حساب شديد ، وسؤال خاص.
حقاً انه لأمرٌ يكشف عن مدى القسوة الّتي كان عليها قلوبُ الجماعة.
إنها قسوة تغشى كل عواطف المرء فلا يعود يسمع معها نداء الضمير ، ولا يحسُّ معها بوخز الوجدان ، انه لا يعود يسمع معها حتّى صراخ بنته الجميلة البريئة ، واستغاثاتها المؤلمة وهي ترى باُم عينيها حفيرتها ، وتحس بيدي والدها القاسي ، وهو يدفعها إلى تلك الحفرة ويدفنها حية !
إنها قسوة تكشف عن أسوأ وأحطّ درجات الانحطاط الخلقي ، والتقهقر الإنساني.
وبنو تميم هي أول قبيلة اقدمت على هذه الجريمة النكراء ، وكان السبب أن « بني تميم » أمتنعوا من دفع ضريبة الاتاوة الّتي كانت عليهم إلى الملك ، فجرّد اليهم النعمان بن المنذر حاكم العراق آنذاك جيشاً كبيراً لضرب هذا التمرد ، وانتصر على « بني تميم » في المآل وغنم منهم الغنائم وسبى منهم الفتيات والنساء ، فوفدت وفود « بني تميم » على النعمان بن المنذر وكلّموه في الذراري والنساء ، فحكم النعمان بان يجعل الخيار في ذلك إلى النساء ، فأية امرأة اختارت زوجَها ردّت عليه ، فاختلَفْنَ في الخيار ، فاختار بعضهُنَّ العودة إلى الاهل والاباء ، واختارت بنتٌ لقيس بن عاصم سابيها على زوجها مما أثار هذا الموقف والاختيار غيظ والدها العجوز « قيس بن عاصم » فنذرَ من ذلك الحين أنْ يدسَ كلَ بنت تُولَد له. وهكذا سنّ لقومه الوأد ، واخذت بقية القبائل بهذه العادة البغيضة الوحشية إرضاءً لغيرتهم وظلّوا يمارسونها اعواماً متمادية (2).
واليك واحدة من القصص المأساوية في هذا المجال :
قيل لماوفد « قيس بن عاصم » على رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم سأله بعض الانصار عما يتحدث به في الموؤدات ، فاخبر انه ما ولدت له بنت إلاّ وأدها ، قال : كنتُ اخاف العار وما رحمتُ منهنَ إلاّ بُنيّة كانت ولدتها اُمها وأنا في سفر ، فدفعتها إلى أخواتها ، وقدمت أنا من سفري فسألتها عن الحمل ، فاُخبِرت أنها ولَدت ولداً ميتاً ، وكتمتْ حالها ، حتّى مضت على ذلك سنونٌ ، وكبرت الصبية ، وينعت ، فزارت اُمها ذات يوم ، فدخلتُ فرأيتها وقد ضفرت شعرها وجعلت في قرونها جداداً ونظمت عليها ودعاً ، والبستها قلادة من جزع فقلت لها : من هذه الصبية ؟ وقد اعجبني جمالها فبكت اُمها ، وقالت : هذه ابنتك ، فامسكتُ عنها حتّى غفلتْ اُمها ثم اخرجتها يوماً فحفرتُ لها حفرة وجعلتها فيها وهي تقول : يا ابت ما تصنع ؟ أخبرني بحقك !! وجعلتُ اُقلّب عليها التراب ، وهي تقول : أنت مغط عليَّ بهذا التراب ، أنت تاركي وحدي ، ومنصرفٌ عني ، وجعلتُ اقذفُ عليها حتّى واريتها ، وانقطع صوتُها ، فتلك حسرتها في قلبي ، فَدَمعتْ عينا رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم وقال : « إن هذه لقسوة ، ومن لا يَرحَم لا يُرحَم » (3).
وقد ذكر ابن الاثير في كتابه « اُسد الغابة » في مادة : قيس : ان النبي صلى الله عليه وآله وسلم سأل قيساً عن عدد البنات اللاتي وأدهنَّ في الجاهلية : فاجاب قيسٌ بانه وأد اثنتي عشرة بنتاً له (4).
ورُوي عن ابن عباس أنه قال : كانت الحامل إذا قَربت ولادتها حفرت حفرة فمخضت على رأس تلك الحفرة ، فاذا ولدت بنتاً رمت بها في الحفرة وإذا ولدت ولداً حبسته (5).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ التكوير : 8.
2 ـ بلوغ الارب في معرفة أحوال العرب : ج 3 ، ص 42 و 43.
3 ـ حياة محمَّد : تأليف محمَّد علي سالمين ، ص 24 و 25.
4 ـ راجعُ اسد الغابة : ج 4 ، ص 220 ، وجاء في بلوغ الارب في معرفة أحوال العرب : ج 3 ، ص 43 أنه وأد بضع عشرة بنتاً.
5 ـ بلوغُ الارب : ج 3 ، ص 43.
سيد المرسلين ( صلى الله عليه وآله وسلم ) الاستاذ المحقّق الشيخ جعفر السبحاني