روى العياشي في تفسيره عن الصادق ( عليه السلام ) قال : إن عمار بن ياسر اخذ بمكة فقالوا له: أبرأ من رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، فبرأ منه ، فأنزل الله عذره : (الا من أكره وقلبه مطمئن بالايمان) . وروى فيه عنه ( عليه السلام ) قال : أما سمعت قول الله في عمار : (الا من أكره وقلبه مطمئن بالايمان) . وروى فيه عنه ( عليه السلام ) قال : إن هذه الآية نزلت في عمار وأصحابه : (الا من أكره وقلبه مطمئن بالايمان). ولذلك قال القمي في تفسير هذه الآية، هو عمار بن ياسر أخذته قريش بمكة، فعذبوه بالنار حتى أعطاهم بلسانه ما أرادوا ، وقلبه مطمئن بالايمان. ثم قال في عمار أيضا: (ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ثم جاهدوا وصبروا إن ربك من بعدها لغفور رحيم). وروى الكليني في (الكافي) بسنده عن الصادق ( عليه السلام ) أيضا قال : إن عمار بن ياسر أكرهه أهل مكة وقلبه مطمئن بالايمان، فقال له النبي ( صلى الله عليه وآله ) عندها : يا عمار ان عادوا فعد، فقد أنزل الله عذرك: (الا من أكره وقلبه مطمئن بالايمان) وأمرك أن تعود إن عادوا. وروى الطبرسي في "مجمع البيان" عن قتادة وابن عباس قال : نزلت الآية في جماعة أكرهوا على الكفر ، وهم: عمار وياسر أبوه وأمه سمية وصهيب وبلال وخباب ، عذبوا حتى قتل أبو عمار وأمه ، فأعطاهم عمار بلسانه ما أرادوا منه ، فأخبر الله سبحانه بذلك رسوله ، فقال قوم : كفر عمار ، فقال ( صلى الله عليه وآله ) : كلا إن عمارا ملئ ايماناً من قرنه إلى قدمه واختلط الايمان بلحمه ودمه . وجاء عمار إلى رسول الله وهو يبكي ، فقال (صلى الله عليه وآله): ما وراءك ؟ فقال : شر يا رسول الله ، ما تركت حتى نلت منك وذكرت آلهتهم بخير ! فجعل رسول الله (صلى الله عليه وآله) يمسح عينيه ويقول : إن عادوا لك فعد لهم بما قلت. ثم قال: فنزلت الآية. بينما مر في خبر الكليني عن الصادق ( عليه السلام ) أن النبي قال له: " ان عادوا فعد فقد أنزل الله عذرك وأمرك أن تعود إن عادوا " مما ظاهره أن الآية كانت قد نزلت عليه ( صلى الله عليه وآله ) قبل مقابلة عمار له لا بعدها . وقد مر في خبر الطبرسي نفسه: أن الله أخبر بذلك رسوله قبل مجئ عمار إلى الرسول، فالظاهر أن نزول الآيات كان قبل المقابلة لا بعدها ، وعليه فلا محل لقوله : " فنزلت الآية " كما لا محل لما أخرجه السيوطي في ( الدر المنثور ) عن مصنف عبد الرزاق ، وطبقات ابن سعد ، وتفسير ابن جرير الطبري ، والبيهقي في (دلائل النبوة) من طريق أبي عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر ، عن أبيه عن آبائه قال: أخذ المشركون عمار بن ياسر فلم يتركوه حتى سب النبي - صلى الله عليه [ وآله ] وسلم - وذكر آلهتهم بخير ، ثم تركوه . فلما أتى رسول الله قال له : ما وراءك ؟ قال : شر ، ما تركت حتى نلت منك وذكرت آلهتهم بخير ! قال : فكيف تجد قلبك ؟ قال : مطمئن بالايمان ، قال : فان عادوا فعد ، فنزلت . وبقوله : فان عادوا فعد ، لا محل لما أخرجه السيوطي فيه عن ابن عباس قال : لما أراد رسول الله -صلى الله عليه [ وآله ] وسلم- أن يهاجر إلى المدينة قال لأصحابه. فأصبح بلال وخباب وعمار. فأخذهم المشركون. وأما عمار فقال لهم كلمة أعجبتهم ، تقية ، ثم خلوا عن بلال وخباب وعمار فلحقوا برسول الله فأخبروه بالذي كان من أمرهم. وأنزل الله (الا من أكره وقلبه مطمئن بالايمان). وكذا لا محل لما رواه قبله الواحدي في ( أسباب النزول ) عن ابن عباس قال : ان المشركين أخذوا عماراً وأباه ياسراً وأمه سمية وبلالاً وخباباً وسالماً . فأما سمية فإنها ربطت بين بعيرين ووجئ قبلها بحربة فقتلت ، وقتل زوجها ياسر، فهما أول قتيلين في الإسلام ، وأما عمار فإنه أعطاهم ما أرادوا بلسانه مكرهاً. فأخبر النبي بأن عماراً كفر ! فقال : كلا ، ان عمارا ملئ ايمانا من قرنه إلى قدمه ، واختلط الايمان بدمه ولحمه ! فأتى عمار رسول الله وهو يبكي ، فجعل رسول الله يمسح عينيه وقال : ان عادوا لك فعد لهم بما قلت . فأنزل الله . وبهذا المعنى ما رواه الكشي في رجاله بسنده عن الليث بن سعد ( كاتب الواقدي ) عن عمر مولى غفرة قال: حبس عمار فيمن حبس وعذب ، فانفلت فيمن انفلت من الناس فقدم على رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقال : أفلح أبو اليقظان ! قال: ما أفلح ولا أنجح لنفسه ، لأنهم لم يزالوا يعذبونه حتى نال منك! قال: إن سألوا من ذاك فزدهم. بل روى فيه بسنده عن محمد المحمودي المروزي قال : ان عمار بن ياسر قتلت قريش أبويه ورسول الله يقول : صبراً آل ياسر فان موعدكم الجنة ، ما تريدون من عمار؟ عمار مع الحق والحق مع عمار حيث كان، عمار جلدة بين عيني وأنفي، تقتله الفئة الباغية، يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار . وألقته قريش في النار فقال فيه رسول الله (صلى الله عليه وآله): يا نار كوني برداً وسلاماً على عمار كما كنت برداً وسلاماً على إبراهيم . فلم تصله النار ولم يصبه منها مكروه وهذا يدل على وجود الرسول في مكة حينذاك ، فلعل ذلك كان في أيام الموسم إذ كان يخرج فيه النبي وبنو هاشم ، ولعلنا نجد في ذلك حلاً للاشكال ، ومحملاً لهذه الأخبار التي تفيد أن عماراً عذب قبيل هجرته بل وقد هاجر الرسول ( صلى الله عليه وآله ) ، وأنه هاجر إلى المدينة ولكنه لم يواجه الرسول حياء منه لما قاله من كلمة الكفر ، أو واجهه وهو يبكي من ذلك ، حتى طمأنه النبي بعدم الاثم عليه . فان هذه الأخبار انما تناسب تلك الفترة لا قبلها . وأيضا نجد بالقول بتعدد الموقف لعمار ، محملاً جميلا لطيفا لقول الرسول له : " إن عادوا لك فعد لهم " بأنها كلمة قالها له في هذه المرة مشيراً له بلطف إلى أن هذا الأمر سيتكرر منهم ومنك ، وأن الإشارة إلى تكرار ذلك أيام هجرته . ولكن الرواة خلطوا فجعلوا هذه الجملة مقولة له من الرسول ( صلى الله عليه وآله ) في المدينة بعد الهجرة حيث لا توقع بعودة مشركي قريش إلى تعذيب عمار لافتتانه عن دينه . فما معنى أن يقول له الرسول: ان عادوا فعد لهم ؟ . ونجد بذلك أيضا محملاً لخلط بعض الرواة حيث رووا ما يفيد أن هذه الآية من سورة النحل المكية نزلت بعد الهجرة في عمار ، كما مر عن السيوطي في " الدر المنثور " مما استلزم استثناء هذه الآيات من مكية السورة بلا موجب .
المصدر:موسوعة التاريخ الإسلامي - محمد هادي اليوسفي - ج 1 - ص 620 - 625