روى الطبرسي في "إعلام الورى" عن القمي قال: كان بين الأوس والخزرج حرب قد بغوا فيها دهورا طويلة، وكانوا لا يضعون السلاح لا بالليل ولا بالنهار، وكان آخر حرب بينهم يوم بغاث، وكانت للأوس على الخزرج. وكان عبد الله بن أبي بن سلول من أشراف الخزرج، (ولكنه لما دعي معهم) قال: هذا ظلم منكم للأوس ولا أعين على الظلم. فلم يدخل مع قومه الخزرج في حرب بغاث ولم يعن على الأوس (فلما كانت يوم بغاث للأوس على الخزرج) رضيت به الأوس والخزرج واجتمعت عليه على أن يملكوه عليهم لشرفه وسخائه. وأعدوا له إكليلاً (وانما بقي منه واسطة العقد) فاحتاجوا لاتمامه إلى واسطة وكانوا يطلبونها. ( ولكن ) أسعد بن زرارة وذكوان بن عبد القيس الخزرجيين خرجا في موسم من مواسم العرب في عمرة رجب إلى مكة، يسألون الحلف على الأوس. وكان هذا في وقت محاصرة بني هاشم في الشعب. وكان أسعد بن زرارة صديقاً لعتبة بن ربيعة فنزل عليه، وقال له: إنه كان بيننا وبين قومنا حرب، وقد جئناكم نطلب الحلف عليهم. فقال عتبة: بعدت دارنا عن داركم، ولنا شغل لا نتفرغ معه لشئ. قال أسعد: وما شغلكم وأنتم في حرمكم وأمنكم؟ قال عتبة: خرج فينا رجل يدعي أنه رسول الله، سفه أحلامنا وسب آلهتنا وأفسد شبابنا وفرق جماعتنا. قال أسعد: من هو منكم؟ قال: ابن عبد الله بن عبد المطلب، من أوسطنا شرفاً وأعظمنا بيتاً. وكان أسعد وذكوان وجميع الأوس والخزرج يسمعون من اليهود الذين كانوا بينهم: النضير وقريظة وقينقاع: أن هذا أوان نبي يخرج بمكة يكون مهاجره إلى المدينة، لنقتلكم به يا معشر العرب. فلما سمع ذلك أسعد وقع في قلبه ما كان سمعه من اليهود. قال: فأين هو؟ قال: جالس في الحجر، وإنهم لا يخرجون من شعبهم الا في الموسم فلا تسمع منه ولا تكلمه فإنه ساحر يسحرك بكلامه. فقال له أسعد: فكيف أصنع وأنا معتمر لابد لي من أن أطوف بالبيت؟ فقال عتبة: ضع في أذنيك القطن. فدخل أسعد المسجد وقد حشا اذنيه من القطن فطاف بالبيت ورسول الله جالس في الحجر مع قوم من بني هاشم، فنظر إليه نظرة فجازه، فلما كان في الشوط الثاني قال في نفسه: ما أجد أجهل مني: أيكون مثل هذا الحديث بمكة فلا نعرفه حتى ارجع إلى قومي فأخبرهم. ثم أخذ القطن من اذنيه ورمى به وقال لرسول الله: أنعم صباحاً. فرفع رسول الله رأسه إليه وقال: قد أبدلنا الله به ما هو أحسن من هذا تحية أهل الجنة: السلام عليكم. فقال له: أسعد: ان عهدك بهذا لقريب، إلى ما تدعو يا محمد؟ قال: إلى شهادة أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، وأدعوكم إلى (أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُم مِّنْ إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ، وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللّهِ أَوْفُواْ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ). فلما سمع أسعد هذا قال : أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأنك رسول الله. ثم قال: يا رسول الله بأبي أنت وأمي أنا من أهل يثرب من الخزرج، وبيننا وبين إخواننا من الأوس حبال مقطوعة، فان وصلها الله بك فلا أحد أعز منك. ومعي رجل من قومي فان دخل في هذا الأمر رجوت أن يتمم الله لنا أمرنا فيك. والله يا رسول الله لقد كنا نسمع من اليهود خبرك، وكانوا يبشروننا بمخرجك ويخبروننا بصفتك، وأرجو أن تكون دارنا هجرتك وعندنا مقامك، فقد أعلمنا اليهود ذلك، فالحمد لله الذي ساقني إليك. والله ما جئت إلا لنطلب الحلف على قومنا، وقد أتانا الله بأفضل مما أتيت له. ثم أقبل ذكوان فقال له أسعد: هذا رسول الله الذي كانت اليهود تبشرنا به وتخبرنا بصفته، فهلم وأسلم . فأسلم ذكوان. ثم قالا: يا رسول الله ابعث معنا رجلاً يعلمنا القرآن ويدعو الناس إلى أمرك. وكان مصعب بن عمير فتى حدثاً مترفاً بين أبويه يكرمانه ويفضلانه على أولادهم فلما أسلم جفاه أبواه. وكان لم يخرج من مكة (إلى الحبشة) فكان مع رسول الله في الشعب حتى تغير وأصابه الجهد. وكان قد تعلم من القرآن كثيراً . فأمره رسول الله بالخروج مع أسعد. فخرج معه إلى المدينة فكان مصعب نازلاً على أسعد بن زرارة، وكان يخرج في كل يوم يطوف فيه على مجالس الخزرج يدعوهم إلى الاسلام فيجيبه الأحداث، من كل بطن الرجل والرجلان. وفتر أمر عبد الله بن أبي بن سلول فكره ما جاء به أسعد وذكوان. وقال أسعد لمصعب: إن خالي سعد بن معاذ من رؤساء الأوس، وهو رجل عاقل شريف مطاع في بني عمرو بن عوف، فان دخل في هذا الأمر تم لنا أمرنا، فهلم فأتهم. فجاء مصعب مع أسعد إلى محلة سعد بن معاذ فقعد على بئر من آبارهم ، واجتمع إليه قوم من أحداثهم، فأخذ يقرأ عليهم القرآن. فبلغ ذلك سعد بن معاذ، فقال لأسيد بن حضير: بلغني أن أبا امامة أسعد بن زرارة قد جاء إلى محلتنا مع هذا القرشي (مصعب بن عمير) يفسد شبابنا! فأته وانهه. فجاء أسيد بن حضير، فنظر إليه أسعد فقال لمصعب بن عمير: ان هذا الرجل شريف فان دخل في هذا الأمر رجوت أن يتم أمرنا، فاصدق الله فيه. فلما قرب أسيد منهم قال: يا أبا أمامة! يقول لك خالك: لا تأتنا في نادينا ولا تفسد شبابنا، واحذر الأوس على نفسك!. فقال مصعب: أو تجلس فنعرض عليك أمراً فان أحببته دخلت فيه، وإن كرهته نحينا عنك ما تكرهه. فجلس، فقرأ عليه سورة من القرآن. فقال أسيد: كيف تصنعون إذا دخلتم في هذا الأمر؟ قال: نغتسل ونلبس ثوبين طاهرين، ونشهد الشهادتين، ونصلي ركعتين. فرمى أسيد بنفسه مع ثيابه في البئر، ثم خرج وعصر ثوبه ثم قال: أعرض علي. فعرض عليه شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله. فقالها ، ثم صلى ركعتين ثم قال لأسعد: يا أبا أمامة، أنا أبعث إليك الآن خالك، وأحتال عليه في أن يجيئك. فرجع أسيد إلى سعد بن معاذ، فلما نظر إليه سعد قال: أقسم أن أسيداً قد رجع إلينا بغير الوجه الذي ذهب به من عندنا. وأتاهم سعد بن معاذ، فقرأ عليه مصعب: (بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، حم، تَنزِيلٌ مِّنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ . . . ) فلما سمعها بعث إلى منزله فاتي بثوبين طاهرين، واغتسل وشهد الشهادتين وصلى ركعتين. ثم قام وأخذ بيد مصعب وحوله إليه. ثم جاء فوقف في بني عمرو بن عوف، فصاح : يا بني عمرو بن عوف لا يبقين رجل ولا امرأة بكر ولا ذات بعل، ولا شيخ ولا صبي الا أن يخرج، فليس هذا يوم ستر ولا حجاب. فلما اجتمعوا أخذ بيد مصعب وقال له: أظهر أمرك وادع الناس علانية ولا تهابن أحداً. ثم قال لهم أسعد: كيف حالي عندكم؟ قالوا: أنت سيدنا والمطاع فينا ولا نرد لك أمراً فمرنا بما شئت. فقال: كلام رجالكم ونسائكم وصبيانكم علي حرام حتى تشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، والحمد لله الذي أكرمنا بذلك، وهو الذي كانت اليهود تخبرنا به. فما بقي دار من دور عمرو بن عوف في ذلك اليوم الا وفيها مسلم أو مسلمة. وشاع الاسلام بالمدينة وكثر، ودخل فيه أشراف البطنين ( الأوس والخزرج ) وذلك لما عندهم من أخبار اليهود. وكتب مصعب بذلك إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله). فكان رسول الله يأمر من يعذبه قومه بالخروج إلى المدينة، فأخذوا يتسللون رجل فرجل فيصيرون إلى المدينة فينزلهم الأوس والخزرج عليهم ويواسونهم .
المصدر: موسوعة التاريخ الإسلامي - محمد هادي اليوسفي - ج 1 - ص 650 - 655