وكما روى ابن إسحاق هنا عن معبد بن كعب عن أخيه عبد الله بن كعب عن أبيه كعب بن مالك الخزرجي: أن العباس كان يجالس رسول الله (صلى الله عليه وآله) في المسجد الحرام أيام الموسم ويعرفه بالناس. يستمر فيروي عنه: أنه (صلى الله عليه وآله) جاءنا - في العقبة الثانية - ومعه عمه العباس بن عبد المطلب وهو يومئذ على دين قومه، إلا أنه أحب أن يحضر أمر ابن أخيه ويتوثق له. فلما جلس كان أول من تكلم العباس فقال: يا معشر الخزرج: ان محمداً منا حيث قد علمتم، وقد منعناه من قومنا ممن هو على مثل رأينا فيه، فهو في عز من قومه ومنعة في بلده (؟!) وانه قد أبى إلا الانحياز إليكم وإللحوق بكم (؟) فان كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه ومانعوه ممن خالفه، فأنتم وما تحملتم من ذلك، وإن كنتم ترون أنكم مسلموه وخاذلوه بعد الخروج به إليكم، فمن الآن فدعوه، فإنه في عز ومنعة من قومه وبلده (؟!) . فقلنا له: قد سمعنا ما قلت. فتكلم يا رسول الله فخذ لنفسك ولربك ما أحببت. فتكلم رسول الله فتلا القرآن ودعا إلى الله ورغب في الاسلام ثم قال: أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم. ثم يروي عن عاصم بن عمر بن قتادة عن أشياخ قومه قالوا: ان القوم لما اجتمعوا لبيعة رسول الله - صلى الله عليه [ وآله ] وسلم - قال العباس بن عبادة بن نضلة الأنصاري: يا معشر الخزرج، هل تدرون علام تبايعون هذا الرجل؟ قالوا: نعم ، قال: إنكم تبايعونه على حرب الأحمر والأسود من الناس، فان كنتم ترون أنكم إذا نهكت أموالكم مصيبة وأشرافكم قتلاً أسلمتموه فمن الآن، فهو - والله إن فعلتم - خزي الدنيا والآخرة، وان كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه على نهكة الأموال وقتل الأشراف فخذوه، فهو - والله - خير الدنيا والآخرة. قالوا: فإنا نأخذه على مصيبة الأموال وقتل الأشراف. فما لنا بذلك يا رسول الله ان نحن وفينا بذلك؟ قال: الجنة. قالوا: ابسط يدك، فبسط يده فبايعوه. وما قال ذلك العباس إلا ليشد العقد لرسول الله في أعناقهم. وكأنه يروي الخبر كذلك عن عبد الله بن أبي بكر، وأنه قال في آخر الخبر: قال ذلك العباس ليؤخر القوم تلك الليلة رجاء أن يحضرها عبد الله ابن أبي بن سلول، فيكون أقوى لأمر القوم وكأن ابن إسحاق تخيل اختلافاً بين القولين فقال: فالله أعلم أي ذلك كان. فان كان بين القولين خلاف في إرادة العباس بن عبادة بقوله ذلك تأخير القوم تلك الليلة يرجو أن يحضرها عبد الله بن أبي بن سلول. فلا خلاف في أنه قال ذلك ليشد العقد لرسول الله ويقوي أمره وأمرهم، سواء أراد ذلك من خلال حضور ابن سلول أم لا. هذا، ولكن قول ابن أبي بكر يدل على أن طلب رسول الله منهم البيعة على " بيعة الحرب " لم يكن طلباً قد تقدم به إلى القوم من ذي قبل بل كأنه فاجأهم أو فاجأ جمعهم بذلك. وتتقارب مقالة العباس بن عبادة مع مقالة العباس بن عبد المطلب، وكلاهما يريد شد العقد لرسول الله ويتوثق له، فيقول أحدهم: وإن كنتم ترون أنكم مسلموه وخاذلوه فمن الآن فدعوه. ويقول الآخر: فان كنت ترون أنكم إذا . . . أسلمتموه فمن الآن . وكل من المقالتين للرجلين في روايتين، ولا تجمعهما رواية واحدة. فهل كان كلاهما؟ أو أحدهما؟ وان كان أحدهما فهل هو العباس بن عبادة أو العباس بن عبد المطلب؟ وهل صحيح ما جاء فيما روي عن العباس عم النبي (صلى الله عليه وآله) أنه في عز من قومه ومنعة في بلده؟ ! وأنه قد منعه عن قومه ممن هو على مثل رأيه؟! كما في النص. وهل صحيح أنه: أبى إلا الانحياز إلى الخزرج واللحوق بهم ؟! وهل كانت هجرته مجاهراً بها منذ بيعة العقبة الثانية؟! بل يقول ابن إسحاق: وأقام رسول الله بمكة ينتظر أن يأذن له ربه في الخروج والهجرة من مكة إلى المدينة. أم أن الصحيح هي رواية عاصم بن عمر بن قتادة عن أشياخ قومه ورواية عبد الله بن أبي بكر، وأن المتكلم كان العباس بن عبادة، لا العباس بن عبد المطلب على رواية معبد بن كعب. ولا ننسى أن هذه السيرة لابن إسحاق اختصره من كتابه الكبير في التاريخ الذي صنفه للمهدي بن المنصور العباسي بأمر المنصور.
المصدر: موسوعة التاريخ الإسلامي - محمد هادي اليوسفي - ج 1 - ص 710 - 713