شورى دار الندوة:
روى العياشي في تفسيره عن زرارة وحمران ومحمد بن مسلم عن أحدهما ، قال: إن قريشا اجتمعت فخرج من كل بطن أناس، فانطلقوا إلى دار الندوة ليشاوروا فيما يصنعون برسول الله (صلى الله عليه وآله)، فإذا هم بشيخ قائم على الباب، وإذ ذهبوا ليدخلوا قال: أدخلوني معكم. قالوا: ومن أنت؟ يا شيخ، قال: أنا شيخ من مضر، ولي رأي أشير به عليكم. فدخلوا وجلسوا وتشاوروا وهو جالس، وأجمعوا أمرهم على أن يخرجوه. فقال: ليس هذا لكم برأي، ان أخرجتموه أجلب عليكم الناس فقاتلوكم. قالوا: صدقت ما هذا برأي. ثم تشاوروا فأجمعوا أمرهم على أن يوثقوه. قال: هذا ليس بالرأي، إن فعلتم هذا، ومحمد رجل حلو اللسان أفسد عليكم أبناءكم وخدمكم، وما ينفع أحدكم إذا فارقه أخوه وابنه أو امرأته؟! ثم تشاوروا فأجمعوا أمرهم على أن يقتلوه، يخرجون من كل بطن منهم بشاب فيضربونه بأسيافهم جميعاً. وروى الصدوق في " الخصال " بسنده عن جابر الجعفي عن الباقر عن علي ( عليه السلام ) قال: إن قريشاً لم تزل تجيل الآراء وتعمل الحيل في قتل النبي حتى كان آخر ما اجتمعت عليه في يوم الدار دار الندوة. فلم تزل تضرب أمرها ظهراً لبطن حتى اجتمعت آراؤها على أن ينتدب من كل فخذ من قريش رجل، ثم يأخذ كل رجل منهم سيفه ثم يأتي النبي وهو نائم على فراشه، فيضربونه جميعاً بأسيافهم ضربة رجل واحد فيقتلوه، فإذا قتلوه منعت قريش رجالها ولم تسلمهم، فيمضي دمه هدراً. وقال القمي في تفسيره: اجتمعوا في دار الندوة، وكان لا يدخل دار الندوة إلا من أتى عليه أربعون سنة، فدخلوا أربعون رجلاً من مشايخ قريش. وجاء إبليس في صورة شيخ كبير، فقال له البواب: من أنت؟ فقال: أنا شيخ من أهل نجد، لا يعدمكم مني رأي صائب، إني حيث بلغني اجتماعكم في أمر هذا الرجل جئت لأشير عليكم. فقال الرجل: ادخل، فدخل إبليس. فلما أخذوا مجلسهم قال أبو جهل: يا معشر قريش، إنه لم يكن أحد من العرب أعز منا، نحن أهل الله تغدوا إلينا العرب في السنة مرتين، ويكرموننا، ونحن في حرم الله لا يطمع فينا طامع، فلم نزل كذلك حتى نشأ فينا محمد بن عبد الله، فكنا نسميه الأمين لصلاحه وسكونه وصدق لهجته، حتى إذا بلغ ما بلغ وأكرمناه ادعى أنه رسول الله وأن أخبار السماء تأتيه، فسفه أحلامنا وسب آلهتنا وأفسد شبابنا وفرق جماعتنا، وزعم أنه من مات من أسلافنا ففي النار، فلم يرد علينا شئ أعظم من هذا! وقد رأيت فيه رأيا. قالوا: وما رأيت؟ قال: رأيت أن ندس إليه رجلاً منا ليقتله فان طلبت بنو هاشم بديته أعطيناهم عشر ديات. فقال الخبيث: هذا رأي خبيث! قالوا: وكيف ذلك؟ قال: لأن قاتل محمد مقتول لا محالة، فمن ذا الذي يبذل نفسه للقتل منكم؟ فإنه إذا قتل محمد تعصب بنو هاشم وحلفاؤهم من خزاعة، وإن بني هاشم لا ترضى أن يمشي قاتل محمد على الأرض فتقع بينكم الحروب في حرمكم وتتفانوا. فقال آخر منهم: فعندي رأي آخر. قالوا: وما هو؟ قال: نثبته في بيت ونلقي إليه قوته حتى يأتي عليه ريب المنون، فيموت، كما مات زهير والنابغة وامرؤ القيس. فقال إبليس: هذا أخبث من الآخر! قالوا: وكيف ذلك؟ قال: لأن بني هاشم لا ترضى بذلك، فإذا جاء موسم من مواسم العرب استغاثوا بهم واجتمعوا عليكم فأخرجوه. قال آخر منهم: لا، ولكنا نخرجه من بلادنا ونتفرغ لعبادة آلهتنا. قال إبليس: هذا أخبث من الرأيين المتقدمين! قالوا: وكيف ذلك؟ قال: لأنكم تعمدون إلى أصبح الناس وجهاً وأنطق الناس لساناً وأفصحهم لهجة فتحملونه إلى وادي العرب فيخدعهم ويسحرهم بلسانه، فلا يفجأكم الا وقد ملأها عليكم خيلاً ورجلاً. فبقوا حائرين . ثم قالوا لإبليس: فما الرأي فيه يا شيخ؟ قال: ما فيه الا رأي واحد. قالوا: وما هو؟ قال: يجتمع من كل بطن من بطون قريش واحد، ويكون معهم من بني هاشم رجل، فيأخذون سكينة أو حديدة أو سيفا فيدخلون عليه فيضربونه كلهم ضربة واحدة حتى يتفرق دمه في قريش كلها فلا يستطيع بنو هاشم أن يطلبوا بدمه وقد شاركوا فيه، فان سألوكم أن تعطوا الدية فاعطوهم ثلاث ديات. فقالوا: نعم وعشر ديات. ثم قالوا: الرأي رأي الشيخ النجدي. ونزل جبرئيل على رسول الله وأخبره الخبر.
وروى الطوسي في أماليه بسنده عن أبي عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر حديثاً في مبيت علي (عليه السلام) على فراش رسول الله وهجرته إلى المدينة، صدره عن سنان بن أبي سنان عن هند بن أبي هالة ربيب رسول الله (صلى الله عليه وآله) من خديجة، وسايره عن أبيه محمد بن عمار عن أبيه عمار بن ياسر، وعن عبيد الله بن أبي رافع عن أبيه أبي رافع مولى النبي (صلى الله عليه وآله) ، قالوا انطلق ذوو الطول والشرف من قريش إلى دار الندوة ليرتأوا ويأتمروا في رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأسروا ذلك فيما بينهم. فقال بعضهم - وهم العاص بن وائل السهمي وأمية بن أبي خلف الجمحي - نبني له علماً ويترك برحاً نستودعه فيه، فلا يخلص إليه أحد من الصباة فيه، ولا يزال في رفق من العيش حتى يتضيفه ريب المنون. فقال أبو سفيان وعتبة وشيبة ابنا ربيعة: إنا نرى أن نرحل بعيراً صعباً ونوثق محمداً عليه كتافاً وشداً، ثم نقصع البعير بأطراف الرماح فيوشك أن يقطعه بين الدكادك إرباً إرباً! فقال صاحب رأيهم: إنكم لم تصنعوا بقولكم هذا شيئاً، أرأيتم إن خلص به البعير سالماً إلى بعض الأفاريق فأخذ بقلوبهم سحره وبيانه وطلاقة لسانه فصبأ القوم إليه واستجابت القبائل له قبيلة فقبيلة، فليسيرن إليكم حينئذ بالكتائب والمقانب، فلتهلكن كما هلكت إياد ومن كان قبلكم. قولوا قولكم. فقال أبو جهل: لكن أرى لكم أن تعمدوا إلى قبائلكم العشرة فتندبوا من كل قبيلة منها رجلاً نجداً، ثم تسلحوا سلاحاً عضباً، وتتمهد الفتية حتى إذا غسق الليل وغور بيتوا بابن أبي كبشة بياتاً، فيذهب دمه في قبائل قريش جميعاً، فلا يستطيع بنو هاشم وبنو المطلب مناهضة قبائل قريش في صاحبهم، فيرضون حينئذ بالعقل منهم . فقال صاحب رأيهم أصبت يا أبا الحكم. ثم أقبل عليهم فقال: هذا الرأي فلا تعدلن به رأيا، وأوكئوا في ذلك أفواهكم حتى يستتب أمركم. ثم خرج القوم. فسبقهم جبرئيل بالوحي بما كان من كيدهم .
علي ( عليه السلام ) والمبيت في فراش النبي :
لما أخبر النبي جبرئيل ( عليه السلام ) بأمر الله في ذلك ووحيه وما عزم له من الهجرة، دعا رسول الله علي بن أبي طالب لوقته فقال له: يا علي، ان الروح هبط علي يخبرني أن قريش اجتمعت على المكر بي وقتلي، وانه أوحي إلي عن ربي عز وجل أن أهجر دار قومي وأن أنطلق إلى غار ثور تحت ليلتي، وإنه أمرني أن آمرك بالمبيت على مضجعي لتخفي بمبيتك عليه أثري، فما أنت صانع؟ فقال علي ( عليه السلام ): أو تسلمن بمبيتي هناك يا نبي الله؟ قال: نعم. فتبسم علي ضاحكاً وأهوى إلى الأرض ساجداً شكراً لما أنبأه رسول الله به من سلامته، فكان علي-صلوات الله عليه - أول من سجد لله شكراً، وأول من وضع وجهه على الأرض بعد سجدته من هذه الأمة بعد رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) . فلما رفع رأسه قال له علي (عليه السلام): إمض بما أمرت، فداك سمعي وبصري وسويداء قلبي، ومرني بما شئت. وإن توفيقي الا بالله. فقال له: فارقد على فراشي واشتمل ببردي الحضرمي، ثم اني أخبرك يا علي أن الله تعالى يمتحن أولياءه على قدر إيمانهم ومنازلهم من دينه، فأشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل، وقد امتحنك يا بن عم وامتحنني فيك بمثل ما امتحن به خليله إبراهيم والذبيح إسماعيل (عليهما السلام)، فصبراً صبراً، فان رحمة الله قريب من المحسنين، ثم ضمه النبي (صلى الله عليه وآله) إلى صدره وبكى وجدا به، وبكى علي ( عليه السلام ) جشعاً لفراق رسول الله (صلى الله عليه وآله) .
المصدر:موسوعة التاريخ الإسلامي - محمد هادي اليوسفي - ج 1 - ص 726 - 740